الأربعاء، يونيو 11، 2025

"الأدب الرقمي في المغرب: واقع ناشئ وتحديات التحول"


في عالم تتسارع فيه التحولات الرقمية، لم يعد الأدب في منأى عن هذه الموجة التكنولوجية التي أعادت تعريف علاقة الكاتب بالقارئ، وشكل النص، وطرق التلقي. وفي هذا السياق، يبرز سؤال جوهري: ما هو واقع الأدب الرقمي في المغرب؟ هل هو مجرد نزعة فردية معزولة، أم هو بداية مسار أدبي جديد يسعى لفرض نفسه في ظل بيئة تقليدية؟

الأدب الرقمي، بمفهومه العميق، لا يقتصر على نشر نصوص عبر الإنترنت فحسب، بل يتعدى ذلك إلى إنتاج نصوص "مولودة رقمياً"، تعتمد على التفاعل، وتدمج الصوت والصورة والحركة، وتُبنى باستخدام البرمجة والوسائط المتعددة. وفي المغرب، لا تزال هذه الفكرة في طور التكوين، بالرغم من بعض المبادرات اللافتة التي لا يمكن تجاهلها.

يُعتبر الكاتب عبده حقي من أوائل المغاربة الذين وعوا مبكرًا بضرورة مواكبة التحول الرقمي في الكتابة الإبداعية. فإلى جانب كونه قاصا وشاعرًا وروائيًا، خاض تجربة "الشعر الرقمي" منذ بدايات الألفية الثالثة، وكتب نصوصًا تفاعلية تستخدم الصورة، الصوت، والروابط التشعبية، كما أنشأ مدونة تُعد اليوم مرجعًا في التعريف بالأدب الرقمي ومفاهيمه الأساسية. لقد كان من القلائل الذين ميّزوا بين الأدب "الموقمن " (digitized)، أي النص الورقي الذي يُنقل إلى الشاشة، والأدب "الرقمي الخالص" (born-digital) الذي لا يمكن أن يوجد إلا في بيئة رقمية.

ورغم ريادة هذه التجربة، فإن غياب الدعم المؤسسي يبقى من أبرز معوقات تطور هذا الجنس الأدبي في المغرب. فلا وزارة الثقافة ولا دور النشر ولا الجامعات قد أدرجت الأدب الرقمي ضمن برامجها أو أولوياتها. كما لا توجد جوائز أدبية رسمية تعترف بهذا الشكل الجديد من الإبداع، ما يجعل جلّ المبادرات قائمة على اجتهادات فردية معزولة.

في الجانب الآخر، برزت تجارب شبابية عبر المدونات والمنصات مثل "Wattpad" أو "Medium"، حيث عمد بعض الكتّاب إلى نشر نصوص سردية أو شعرية تتفاعل مع القارئ وتُحدّث باستمرار، بل إن بعضهم حاول استخدام أدوات تفاعلية كـ"Twine" لصناعة قصص متعددة المسارات. إلا أن هذه المحاولات، على قلتها، لم تحظَ باهتمام نقدي أو توثيق أكاديمي يمكن أن يحميها من النسيان أو التلاشي.

وإذا ما قارنا المشهد المغربي بنماذج عربية أخرى، يتضح أن التجربة المغربية ما زالت متأخرة نسبيًا. ففي الأردن، عرف الأدب الرقمي طفرة مبكرة بفضل كتّاب مثل محمد سناجلة، الذي كتب "روايات تفاعلية" في بدايات الإنترنت، بينما شهدت الإمارات وقطر إطلاق جوائز رسمية مثل "جائزة الإبداع الرقمي"، واستثمرت السعودية في إنتاج محتوى رقمي أدبي موجه للشباب، باستخدام الصوت والصورة والذكاء الاصطناعي. أما في لبنان، فقد استفاد عدد من الشعراء والكتاب من الجائحة لإنتاج نصوص رقمية مسرحية وشعرية متطورة.

ورغم ذلك، يمتلك المغرب إمكانات كبيرة تؤهله للحاق بركب هذا التحول. فالتعدد اللغوي (العربية، الفرنسية، الأمازيغية)، وثراء الثقافة البصرية، وانتشار الهواتف الذكية، كلها عوامل تُعد بيئة خصبة لإنتاج أدب رقمي مبتكر. إلا أن ذلك يتطلب جملة من الشروط، من بينها:

إدراج الأدب الرقمي في مناهج الجامعات، لا سيما في كليات الآداب والاعلام.

إطلاق منصة وطنية تحتضن التجارب الرقمية المغربية، وتجمع بين الكتاب والمبرمجين والمصممين.

تنظيم ملتقيات سنوية وندوات نقدية تضع هذا الأدب تحت مجهر البحث والتقويم.

تشجيع الجيل الجديد من الكتّاب الشباب على خوض مغامرة النصوص التفاعلية، سواء عبر التدريب أو الدعم المالي.

إن التحول الرقمي ليس مجرد خيار مستقبلي، بل ضرورة وجودية في عالم يعيد فيه الذكاء الاصطناعي والنصوص التوليدية رسم ملامح المشهد الثقافي. والمغرب، برصيده الأدبي والتاريخي العريق، مطالب اليوم بأن يتجاوز تحفظاته التقليدية وأن يُفسح المجال لهذا اللون الجديد من الإبداع، لا باعتباره تهديدًا للكتابة الورقية، بل بوصفه امتدادًا جديدًا لها، ونافذة على جمهور مختلف، يقرأ ويتفاعل ويشارك.

فالأدب الرقمي ليس مجرد تقنية، بل فلسفة جديدة للكتابة، تعيد للمتلقي دوره الفاعل، وتمنح الكاتب أدوات غير مسبوقة للتعبير عن رؤاه، وقد آن الأوان أن نمنحه المكان الذي يستحقه ضمن نسيجنا الثقافي الوطني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق