الاثنين، يونيو 16، 2025

استكشاف الحدود الفاصلة بين البرنامج، البرمجية، ولغة البرمجة: ترجمة عبده حقي


في خضم الثورة الرقمية التي غيّرت أساليب التواصل والعمل والتفكير، تتداخل مفاهيم كثيرة وتُستخدم أحيانًا دون تمييز دقيق. من بين أكثر المصطلحات غموضًا لدى غير المتخصصين في علوم الحاسوب، بل وحتى لدى بعض المهتمين بالشأن الرقمي، نجد البرنامج " (Program)، "البرمجية" أو "البرمجيات " (Software)، و"لغة البرمجة" (Programming Language).  ويكمن التحدي في فهم الفروق الدقيقة بين هذه المصطلحات، ليس فقط على المستوى الاصطلاحي، بل من حيث الوظيفة والغاية والتموضع داخل النظام الرقمي المعاصر.

مفاهيم متجاورة لكنها ليست مترادفة

الانطلاق من المعاجم التقنية لا يكفي لفهم الفروق بين هذه المفاهيم؛ إذ لا بد من العودة إلى الجذر المفاهيمي لكل منها. فالبرنامج هو أشبه بخطة عمل أو تسلسل محدد من التعليمات التي يُطلب من الحاسوب تنفيذها. هو "نصّ" بلغة الآلة، يحاكي في بنيته تسلسلاً منطقيًا شبيهًا بمخطط معماري. من هذا المنظور، يمكن القول إن البرنامج هو الكيان التنفيذي القابل للتشغيل، أو كما وصفه  Donald Knuth، دونالد كنوث أحد أعلام علم الحوسبة، بأنه "أدب موجّه للآلة".

أما البرمجية، فهي المفهوم الأوسع الذي يحتضن البرامج باعتبارها وحدات تشغيلية داخله. فالبرمجية قد تتكوّن من عدة برامج مترابطة، قواعد بيانات، وواجهات تفاعلية. إنها التجسيد التطبيقي للبرامج ضمن نظام متكامل له وظيفة محددة. لذلك يمكن اعتبار "البرمجية" مفهومًا أكثر شمولًا، فهي لا تمثل فقط الكود بل تشمل أيضًا الوثائق، ملفات المساعدة، وكل ما يدخل ضمن حزمة الاستخدام.

وعلى خلاف الاثنين، تقف لغة البرمجة باعتبارها الوسيلة، لا الغاية. إنها الأداة التعبيرية التي تتيح للمبرمجين صياغة منطق البرامج. مثلما يحتاج الشاعر إلى لغة الشعر كي يعبر عن رؤيته، يحتاج المبرمج إلى لغة برمجة كـPython أو Java أو C++ لكتابة تعليمات قابلة للفهم والتنفيذ من طرف الآلة. يقول Harold Abelson في كتابه المرجعي "Structure and Interpretation of Computer Programs":  لغة البرمجة ليست فقط وسيلة للتواصل مع الآلة، بل أداة لتشكيل الفكر".

الوظيفة والتجريد: الفروق في المستويات

إذا أردنا أن نستعير من فلسفة اللغة مفاهيم الدال والمدلول، يمكن القول إن لغة البرمجة هي "الدال"، والبرنامج هو "المدلول"، أما البرمجية فهي السياق أو النظام الذي يدمج الاثنين ويوجههما نحو غاية وظيفية.

فالبرنامج، مثل خوارزمية حسابية أو تطبيق صغير، يؤدي وظيفة واحدة أو سلسلة من الوظائف المحددة. أما البرمجية فهي المنظومة التي تتكامل فيها عدة برامج لتحقيق غرض أوسع. على سبيل المثال، يمكن اعتبار برنامج "حساب الضرائب" وحدة داخل برمجية كاملة لإدارة المحاسبة في شركة.

لغة البرمجة من جهتها، لا تترجم إلا بوساطة المبرمج الذي يملك مهارات التحليل والبناء المنطقي. وهي ليست بريئة من التحيزات الثقافية. فكما بين  Yukihiro Matsumoto، مبتكر لغة  Ruby، فإن تصميم لغة البرمجة يعكس فلسفة المصمم وتصوراته حول الجمال والكفاءة والوضوح. كل لغة تحمل في طياتها "رؤية ميتافيزيقية" للعالم الرقمي.

الأمثلة تكشف الحدود

لنأخذ مثالاً من الحياة اليومية: عندما نستخدم تطبيق "واتساب"، فنحن نتفاعل مع برمجية متكاملة، تتضمن عدة برامج صغيرة تؤدي وظائف إرسال الرسائل، تشفير البيانات، تخزين الصور، إدارة المستخدمين... وكل هذه البرامج كُتبت بلغة أو أكثر من لغات البرمجة (مثل Java  للجانب الخادمي، وKotlin أو Swift للواجهة الأمامية).

في هذا المثال، لغة البرمجة هي الأداة، البرنامج هو التعليمات المخصصة، والبرمجية هي الكل المتكامل الذي نتعامل معه كمستخدمين.

سياقات صناعية وتربوية

التمييز بين هذه المفاهيم لا يقتصر على النقاشات الأكاديمية، بل له أثر مباشر في التعليم، والهندسة البرمجية، وحتى في السياسة التقنية. ففي السياسات التعليمية، مثلاً، من الضروري أن يتم التفريق بين تعليم "البرمجة" (Coding) وتدريس "مبادئ تطوير البرمجيات" (Software Development). الأول يركز على تعلم لغة البرمجة، بينما الثاني يتعامل مع البناء المعماري والتصميم وإدارة النسخ والفرق البرمجية.

من جهة أخرى، تعرف الصناعة البرمجية اليوم توسعًا في مفهوم "البرمجيات كخدمة" (SaaS)، حيث لم تعد البرمجيات مجرد منتجات تُباع، بل خدمات تُقدّم عبر الإنترنت، مما يتطلب فهمًا دقيقًا للبنية المعمارية والتشغيلية لكل مكون من المكونات.

في الختام: نحو وعي لغوي رقمي

الخلط بين البرنامج والبرمجية ولغة البرمجة هو نتاج فجوة مفاهيمية بين المستخدم العادي والمهندس الرقمي. غير أن هذه الفجوة ليست حتمية. بل يمكن ردمها عبر بناء وعي لغوي رقمي جديد، يميّز بين الوسيط والرسالة، بين الأداة والمضمون. مثلما لا يمكن خلط القلم بالنص، لا يجوز الخلط بين لغة البرمجة والبرنامج أو بين البرنامج والبرمجية.

إن الوضوح المفاهيمي في هذه الحقول لا يساعد فقط على فهم الواقع التقني، بل يسمح لنا بإعادة التفكير في علاقتنا بالعالم الرقمي، لا كمستهلكين سلبيين، بل كفاعلين ومبدعين.

مراجع

> * Abelson, H., & Sussman, G. J. (1996). *Structure and Interpretation of Computer Programs*. MIT Press.

> * Knuth, D. E. (1984). *Literate Programming*. The Computer Journal.

> * Matsumoto, Y. (2003). "The Philosophy of Ruby", Ruby Conference Keynote.

> * Sommerville, I. (2020). *Software Engineering*, 10th Edition. Pearson.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق