في عالم تتشابك فيه الخوارزميات مع المخيلة، يفرض الأدب المُولَّد بالذكاء الاصطناعي نفسه بوصفه ظاهرة ثقافية جديدة تتحدى الحدود التقليدية للإبداع والملكية والذات الكاتبة. غير أن السؤال الذي يعاود طرح نفسه بإلحاح نقدي يتمثل في العلاقة المعقدة بين هذه النصوص الاصطناعية الجديدة ومفهوم «التناص» بوصفه عمادًا في نظرية الأدب، وخصوصًا كما صاغته «جوليا كريستيفا» في ستينيات القرن الماضي، وأعاد تأصيله مفاهيميًا «جيرار جينيت» لاحقًا تحت مسمى "التعالق النصي".
فهل ما ينتجه الذكاء
الاصطناعي من روايات وقصائد وقصص قصيرة، يمكن أن يُقرأ ضمن منطق التناص الأدبي؟ أم
أن الأمر يتجاوز التناص إلى نوع من "الاستدعاء الحسابي" لمخزون لغوي عالمي
غير موقّع؟ أليست النصوص التي تولدها الخوارزميات هي نتيجة "تجميع آلي" لشظايا
لغوية مأخوذة من آلاف المؤلفين، بحيث يصبح النص الناتج هو «تناصًا فوضويًا» بلا ذات
مُبدعة ولا قصد جمالي؟
في الحقيقة، إذا كانت
كريستيفا قد أكدت أن "كل نص هو امتصاص أو تحويل لنصوص أخرى"، فإن الذكاء
الاصطناعي يمارس هذه العملية على نطاق غير مسبوق، حيث لا يقرأ النصوص، بل «يهضمها»
على هيئة بيانات ومصفوفات، ثم «يعيد إنتاجها» وفقًا لأوامر المستخدم وخوارزميات التنبؤ
اللغوي. هنا لا نكون أمام تناص إبداعي نابع من وعي كاتب يحاور تراثًا أدبيًا أو مرجعًا
ثقافيًا، بل أمام تناص يتم بطريقة لاواعية، قائمة على الاحتمال والإحصاء، وليست على
التأويل والحوار.
لكن هل يعني ذلك أن
الأدب المولّد بالذكاء الاصطناعي يفتقد القيمة الجمالية أو لا يحق له أن يُدرج ضمن
سياق التناص؟ الجواب أكثر تعقيدًا مما يبدو. إذ إن هناك من النقاد، مثل نيك مونفورت وأليسون بار، مَن يرون أن هذه النصوص تدخل بالفعل ضمن "أفق التناص
الجديد"، حيث لم يعد التناص اختيارًا بل «برمجة»، ولم يعد الكاتب هو المتحكم في
إحالاته النصية، بل الخوارزمية.
من جهة أخرى، يبدو
أن الذكاء الاصطناعي قد أنتج شكلاً جديدًا من التناص: «تناص غير موقّع». ذلك أن النص
الناتج لا يحيل إلى مرجع محدد كما في اقتباسات الكاتب البشري، بل إلى مجاميع هائلة
من النصوص التي تم تدريب النموذج عليها. وهذا ما يطرح أسئلة شائكة حول «حقوق الملكية
الفكرية»، وحول "أصل" النص الجديد: من هو صاحبه؟ هل هو المستخدم الذي أدخل
التعليمات؟ أم الشركة التي طورت النموذج؟ أم أنه لا أحد، لأن النص لا يخرج عن كونه
تركيبًا إحصائيًا من كلمات سبق استخدامها؟
وفي هذا السياق، يبرز
مصطلح "التناص العدمي"، الذي يمكن أن نُطلقه على النصوص الناتجة عن الذكاء
الاصطناعي، وهي نصوص لا تنتمي إلى تقليد أدبي محدد، ولا تتبنى موقفًا معرفيًا واضحًا،
بل تستعير كل شيء من كل شيء، وتعيد ترتيبه في زمن لا يعود، وحساسية لا تُوقّع. هنا
لا يسعفنا "الذات المؤلف" بل تبرز أمامنا فكرة "الكاتب الآلة"،
كما تنبأ بها رولان بارت في مقاله الشهير "موت المؤلف"، لكن هذه المرة ليست
مجازًا بل واقعًا.
لكننا في المقابل،
لا نستطيع تجاهل الدور الذي يؤديه الإنسان – المستخدم – في توجيه الذكاء الاصطناعي،
وصياغة الأوامر، وتقييم النتائج. هذا الدور يعيد بعض التوازن إلى العلاقة، ويجعل التناص
– في حالته الاصطناعية – مشتركًا بين الإنسان والآلة. إذ أن الإبداع لا يتوقف فقط على
الخوارزمية، بل على ذكاء المستخدم النقدي، ومقدرته على «تحويل المواد الناتجة إلى أدبٍ
حيّ».
وعليه، فإننا نعيش
اليوم في زمن التناص المتعدد الأطراف، حيث تدخل الخوارزميات والبيانات الضخمة كفاعلين
رئيسيين في إنتاج المعنى. وإن كان الأدب الكلاسيكي قد اعتبر التناص لعبة جمالية يبرع
فيها المبدعون، فإن أدب الذكاء الاصطناعي يفرض علينا أن نعيد تعريف هذه اللعبة في ضوء
الفعل التكنولوجي، والسؤال الفلسفي، والمغامرة النصية الجديدة التي لم تعد تبدأ من
الكاتب بل من كود.
هكذا لا يصبح التناص
مجرد إحالة، بل «نسقًا بنيويًا» يتخذ أشكالًا جديدة في العصر الرقمي، بعضها واعٍ ومقصود،
وبعضها عشوائي وتراكبي، وبعضها يُعيد سؤال الإبداع من جذوره: من يكتب؟ ولمن؟ ومن أين
يأتي النص؟ وهل يمكن للآلة أن تُجيد التناص دون أن تُدرك معناه؟
بهذه الأسئلة نختم،
دون أن نغلق باب التأمل، فالعلاقة بين الأدب والذكاء الاصطناعي لم تكتب فصلها الأخير
بعد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق