الأحد، سبتمبر 14، 2025

ثورة النصوص المترابطة: كيف غيّر "الهايبرتكست" مستقبل الأدب؟ عبده حقي


لم يعد الأدب في العصر الرقمي مجرد نص جامد على الورق، بل تحوّل إلى فضاء مفتوح تتقاطع فيه الكتابة مع التقنية، والقراءة مع التفاعل. هذا ما يطرحه مفهوم الهايبرتكست الأدبي، الذي يعدّ ثورة حقيقية في طرائق إنتاج المعنى وتلقيه.

لقد اعتاد القارئ الكلاسيكي أن يواجه نصاً خطياً، يبدأ من الصفحة الأولى وينتهي عند الأخيرة. غير أن الهايبرتكست يكسر هذا الخط الزمني والفضاء السردي التقليدي، ليقدّم للقارئ تجربة أقرب إلى المتاهة الفكرية حيث يمكن الانتقال من مقطع إلى آخر عبر روابط متعددة، مثل جزر متصلة بجسور غير متوقعة. هنا يصبح القارئ شريكاً في صياغة النص، يختار مساره الخاص، ويعيد بناء الحكاية وفق انحرافاته الذهنية ورغباته المعرفية.

هذا التحوّل لا يقتصر على الشكل فحسب، بل يطال جوهر العلاقة بين الكاتب والقارئ. فبينما كان الأول يحتكر سلطة المعنى، صار الثاني الآن جزءاً من العملية الإبداعية، يتنقّل بين الروابط مثل مخرج سينمائي يعيد تركيب المشاهد. وقد شبّه بعض النقاد هذه التجربة بــ"الموزاييك الرقمي"، حيث تتجاور النصوص والصور والمقاطع السمعية في وحدة فنية جديدة.

إن هذه الثورة تطرح أيضاً أسئلة فلسفية حول مفهوم النص ذاته. هل ما زال بالإمكان الحديث عن بداية ونهاية؟ أم أننا دخلنا في زمن النصوص اللامتناهية التي لا تُقرأ بالطريقة نفسها مرتين؟ الباحثون في الأدب الرقمي، من كاثرين هايلز إلى ماثيو كيرشنباوم، أكدوا أن الهايبرتكست يعبر عن تحوّل أنطولوجي في ماهية الكتابة والقراءة.

كما أن هذه التجربة تفتح آفاقاً جديدة أمام الأدب العربي. فالقارئ ، الذي اعتاد على السرد الكلاسيكي، يمكن أن يجد في الهايبرتكست مساحة لتجديد العلاقة مع النصوص، وإعادة ابتكار الحكاية بما يتناسب مع روح العصر. تخيّل مثلاً رواية عربية تتيح للقارئ أن يختار بين مسارات متعددة لشخصية رئيسية، أو أن يتنقّل بين طبقات من التاريخ والذاكرة بضغطة زر.

الرواية التقليدية تقوم على البنية الخطية: بداية، وسط، نهاية. الكاتب هو المخرج الوحيد لمسار الشخصيات والأحداث، والقارئ تابع لهذا الخط من دون قدرة على التغيير. من الأمثلة البارزة في الأدب الغربي روايات تولستوي أو فلوبير، حيث التماسك البنيوي والاكتمال الجمالي شرط أساسي. وفي الأدب العربي يمكن أن نستحضر "الثلاثية" لنجيب محفوظ التي تروي تاريخ أسرة قاهرية وفق خط زمني واضح ومغلق.

أما الهايبرتكست، فيكسر هذه البنية ليفتح مجالاً لـــ التعدد واللايقين. فهو لا يفرض على القارئ مساراً محدداً، بل يضعه في قلب شبكة من المسارات الممكنة. يمكن أن ينتهي القارئ إلى نص مختلف عن قارئ آخر، رغم انطلاقهما من الصفحة ذاتها. هنا يصبح النص قابلاً للتشظي وإعادة التركيب، أشبه بــ"حوار مفتوح" بين الكاتب والمتلقي.

هذا الفرق الجوهري يجعل الرواية التقليدية أشبه برحلة على سكة قطار مستقيم، بينما يشبه الهايبرتكست التجول في مدينة بلا خرائط ثابتة. كلا الشكلين له جمالياته؛ فالأول يمنح الإحساس بالاكتمال والانسجام، بينما الثاني يثير الحيرة الخلّاقة ويدعو إلى التفاعل النقدي.

تجارب عربية في الأدب الرقمي والهايبرتكست

رغم أن معظم التجارب في الهايبرتكست جاءت من الفضاء الغربي، فإن الأدب العربي بدأ منذ سنوات يطرق أبواب الكتابة التفاعلية. نذكر مثلاً:

عبدالله شرف الدين (اليمن) الذي قدّم تجربة في النصوص التشعبية على الإنترنت في مطلع الألفية، معتمداً على روابط داخلية تربط النصوص الشعرية والقصصية.

محمد سناجلة (الأردن) الذي يُعد من أبرز رواد الأدب الرقمي العربي، خاصة مع روايته الإلكترونية ظلال الواحد (2001) التي مزجت بين النص والصورة والصوت في إطار تفاعلي قريب من الهايبرتكست.

عبده حقي (المغرب) الذي كتب نصوصاً رقمية مثل شذرات بلورية حيث يوظف الروابط والصور والمقاطع المرئية في إعادة تشكيل السرد العربي ضمن فضاء رقمي متعدد الوسائط.

مبادرات أكاديمية في المغرب وتونس والجزائر سعت إلى دراسة "الأدب الرقمي" من زاوية نقدية، وربطته بالتحولات الثقافية في العالم العربي.

إن هذه المحاولات وإن كانت لا تزال محدودة مقارنة بالتجارب الغربية، فإنها تكشف عن إمكانات كبرى لإعادة تعريف النص العربي في العصر الرقمي. فالأدب لم يعد حكراً على الورق، بل صار مساحة ديناميكية تتداخل فيها الفنون والوسائط، وتفتح الباب أمام قارئ أكثر حرية ومشاركة.

بين الرواية التقليدية التي تمنح القارئ متعة التماسك، والنصوص المترابطة التي تدفعه إلى المغامرة والاكتشاف، يقف الأدب العربي أمام مفترق طرق. المستقبل قد يكون في الجمع بين الاثنين: نصوص هجينة تستحضر العمق التاريخي للسرد العربي، وتستفيد من الإمكانات التقنية للرقمية. بذلك يتحول القارئ من متلقٍ سلبي إلى مشارك فاعل، ومن قارئ وحيد إلى مسافر في شبكة لا تنتهي من المعاني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق