الجمعة، سبتمبر 19، 2025

بومبيدو يغلق أبوابه… ليعود أكثر إشراقًا

 


باريس تودّع أحد أبرز رموزها الثقافية. أكثر من 150 ألف قطعة فنية تغادر مركز بومبيدو في عملية غير مسبوقة، مع إغلاق أبوابه لخمس سنوات كاملة، هي المدة التي يتطلّبها مشروع ترميم وتجديد ضخم لهذا الصرح الذي شكّل منذ افتتاحه عام 1977 ثورة فكرية ومعمارية في قلب العاصمة الفرنسية.

لكن هذا الغياب الطويل لا يُقرأ بوصفه نهاية، بل بداية جديدة. فالأعمال التي لطالما شكّلت ذاكرة الفن الحديث في أوروبا ستتنقل بين المدن الفرنسية والعواصم العالمية، حاملة معها إشعاع بومبيدو إلى جمهور أوسع. من ميتس إلى موناكو، ومن باريس إلى العواصم الأوروبية، ستُعرض لوحات ومنحوتات نادرة لم تغادر جدران المركز من قبل، في فرصة استثنائية للباحثين والزوّار.

القرار لم يكن سهلًا على العاملين والزوار المخلصين. "نشعر بالحنين لأننا متعلقون بالمتحف"، يقول أحد موظفيه، لكنهم يدركون أن هذه الاستراحة القسرية تمهّد لولادة ثانية. فالمشروع لا يقتصر على الترميم وإزالة مادة الإسباستوس التي كانت تُستخدم بكثرة في سبعينيات القرن الماضي، بل يمتد إلى إعادة تصميم كاملة للبنية الثقافية والمعمارية، تتضمن مكتبة جديدة، فضاءات للشباب، قاعات عرض حديثة، ومطعم يطل على نافورة سترافينسكي، وصولًا إلى سطح المركز حيث ينتظر الزوار مشهد باريس البانورامي.

الأرقام تكشف حجم الطموح: الدولة الفرنسية رصدت 260 مليون يورو، فيما يسعى المركز لجمع 180 مليونًا إضافية من الشركاء والداعمين. الهدف هو مضاعفة إشعاع بومبيدو وجعله أكثر استدامة بيئيًا مع تقليص استهلاك الطاقة بنسبة 60%.

وحتى قبل أن يُفتح الباب مجددًا في أفق 2030، وُلدت مشاريع موازية أبرزها "بومبيدو فونسيليا" في إيسون، المقرر افتتاحه نهاية 2026. هذا الفرع الجديد يهدف إلى تقريب الفن من جمهور المدارس والشباب في ضواحي باريس، وتوفير بيئة مثالية لحفظ الأعمال.

تاريخيًا، لم يكن بومبيدو مجرد متحف. عند افتتاحه تحت إدارة السويدي بونتوس هولتن، قدّم نموذجًا ثوريًا في العلاقة بين الفنان والجمهور، حيث عُرضت أعمال قيد الإنجاز داخل فضاء المنتدى، في محاولة لكسر الحواجز بين الإبداع والمتلقي. واليوم، ومع المعارض التي تستقبلها قاعات "لو باليه" أو فضاءات موناكو وميتس، يعود المركز إلى روحه الأولى: فضاء للتجريب وكسر القواعد، كما في معرض الألوان بموناكو الذي جمع أعمالًا من عشرينيات القرن الماضي إلى فن البوب آرت في الستينيات، دون ترتيب زمني صارم، واستقطب 75 ألف زائر في أقل من شهرين.

بومبيدو إذن لا يغيب، بل يتوزّع، يتنفس خارج جدرانه، ويحوّل فترة الإغلاق إلى دعوة للتجديد. وعندما يفتح أبوابه من جديد، سيعود ليس فقط كمتحف للفن الحديث، بل كمختبر حيّ للحياة الثقافية الفرنسية والعالمية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق