منذ بدايات الحداثة الأوروبية، تردد السؤال القديم: ما الذي يجعل من أي عمل إنتاجا فنًيا؟ أهو شكله وبنيته وما يثيره من لذة حسية خالصة، أم معناه وما يحمله من سياق تاريخي وثقافي؟
هنا يتدخل مفهوم الشكلانية الجمالية، الذي ارتبط بفلاسفة مثل كلَيف بيل وروجر فراي في أوائل القرن العشرين، والذي يرى أن القيمة الفنية للعمل تكمن في خصائصه الشكلية المحسوسة وحدها، مثل الخطوط والألوان في الرسم، أو الإيقاع والتنغيم في الشعر، دون حاجة إلى أي معرفة بسياقه أو تاريخ إنتاجه.
هذه الرؤية أثارت وما
تزال تثير جدلاً واسعًا، لأنها تفصل بين النص وبين ذاكرته، بين الشكل وبين المعنى.
لكن الأدب، بطبيعته المركّبة، يطرح تحديًا لهذا الفصل: فهو فن شكل ومحتوى في آن واحد،
صوت ومعنى، إيقاع وحكاية.
من هنا تصبح العودة
إلى نقاش الشكلانية مناسبة لإعادة التفكير في المشروع الأدبي المغربي الطامح إلى العالمية.
يستند أنصار الشكلانية
إلى فرضية بسيطة: الجمال يمكن أن يُدرك مباشرة عبر الحواس، دون وساطة السياق. فالقارئ
الذي يقرأ قصيدة لبودلير أو قصيدة هايكو يابانية قصيرة قد يتأثر بموسيقى الكلمات وإيقاعها
دون أن يكون ملمًّا بالثقافة الفرنسية أو اليابانية.
في الأدب العربي أيضًا،
نجد هذا البعد عند قراءة بيت للمتنبي أو مقطع شعري حديث لمحمود درويش؛ إذ تكفي قوة
الصور والجرس الداخلي للكلمات كي تُحدث أثرًا جماليًا يتجاوز الثقافة الخاصة. هنا يبدو
أن الشكل نفسه قادر على بناء جسور عالمية، تجعل النص يُقرأ في لغات متعددة دون أن يفقد
طاقته.
هذا هو ما يجعل بعض
النقاد الغربيين يصرّون على أن الشكل هو جوهر القيمة الجمالية، وأنه العنصر الوحيد
المشترك بين البشر كافة، بينما المعاني قد تبقى رهينة ثقافات بعينها.
غير أن الأدب ليس لوحة
مجردة ولا مقطوعة موسيقية صِرفة. فالرواية التي تتناول العبودية، مثل «كوخ العم توم»
في أمريكا القرن التاسع عشر، أو نصوص «دار العبيد» التي كتبها الكاتب المغربي عبده
حقي عن الذاكرة المغربية الإفريقية، لا يمكن أن تُقرأ بصفائها الشكلي فقط. إن قوتها
الجمالية تتضاعف حين ندرك سياقها: الظلم الاجتماعي، التاريخ الكولونيالي، مأساة الرق.
هنا نجد وجاهة اعتراض
الفيلسوف الأمريكي آرثر دانتو، الذي أكد أن عملين متطابقين شكليًا يمكن أن يختلفا جذريًا
في قيمتهما الفنية بسبب نيتهمـا أو محتويهما. فلو وضعنا صندوق «برِلو» حقيقيًا إلى
جانب نسخة طبق الأصل صنعها الفنان آندي وارهول، سنجد أن أحدهما مجرد علبة منتج صناعي،
بينما الآخر عمل فنّي يغيّر نظرتنا إلى الثقافة الاستهلاكية. الشكل نفسه لا يكفي، بل
لابد من السياق.
من هنا ظهر تيار الشكلانية
المعتدل، الذي حاول التوفيق بين الموقفين. الفيلسوف البريطاني نيك زانغويل يرى أن بعض
القيم الجمالية بالفعل شكلية صِرف—مثل التوازن الإيقاعي في قصيدة أو الانسجام البصري
في لوحة—لكن قيمًا أخرى لا يمكن أن تُفهم دون الرجوع إلى عناصر خارج الشكل، مثل المحتوى،
المرجعية الثقافية، أو السياق التاريخي.
هذا الموقف الوسيط
فتح الباب أمام قراءة مزدوجة للنص الأدبي: قراءة تذوقية تركز على الصنعة الأسلوبية،
وقراءة تفسيرية تستحضر الخلفيات التاريخية والاجتماعية. والأديب المتمكن هو من يستطيع
أن ينسج بين المستويين، بحيث يمنح القارئ العالمي متعة شكلية مباشرة، ويمنح القارئ
المحلي أو المتعمق مفاتيح سياقية تُغني التجربة.
مارسيل بروست في «البحث
عن الزمن المفقود» قدّم لنا نصًا موسيقيًا في إيقاعه ولغته، حتى أن المترجمين اعتبروا
نقل أسلوبه تحديًا يوازي نقل معناه. هنا نجد أن الشكل وحده كفيل بإسحار القارئ.
دوستويفسكي، على العكس،
بنى جمالياته على صراع الأفكار والسياقات التاريخية لروسيا القرن التاسع عشر. رواياته
لا تكتمل إلا باستحضار الأزمة الروحية والسياسية التي عاشها مجتمعه.
نجيب محفوظ منح العالم
مزيجًا نادرًا: كتابة دقيقة البناء، مشحونة بلغة إيقاعية، وفي الوقت ذاته مشبعة بملامح
القاهرة الشعبية وتاريخ مصر الحديث. لهذا حصل على العالمية: لأنه جمع بين الشكل الراقي
والسياق المتجذر.
الطاهر بن جلون في
أعماله، خاصة «هذه العتمة الباهرة»، قدّم نصًا شكليًا متينًا بلغة فرنسية شفافة، لكنه
استند إلى سياق مغربي مؤلم (الاعتقال السياسي في تازمامارت). فتضاعفت قوته لأنه خاطب
القارئ الغربي بلسانه، وفي الوقت نفسه حمل ذاكرة محلية مأساوية.
الكاتب المغربي والطموح
العالمي
بالنسبة للكاتب المغربي،
تبدو هذه الثنائية بين الشكل والمعنى تحديًا وفرصة في آن واحد.
التحدي: أن القارئ
العالمي قد ينجذب إلى جماليات اللغة والصورة لكنه قد لا يلتقط الإشارات المحلية المعقدة
إلا إذا وُضعت في شكل قابل للترجمة والتأويل.
الفرصة: أن المغرب
يحمل مخزونًا سياقيًا غنيًا—من الذاكرة الأندلسية إلى تراجيديات الرق والهجرة—يمكن
أن يُقدَّم في إطار شكلي متقن يجعل النص يلمع على الساحة العالمية.
إن مشروعًا مثل «دار
العبيد» مثال حي على إمكانية هذه المزاوجة: نص يشتغل على إيقاعات اللغة العربية، وعلى
بناء سردي رمزي، لكنه لا يتخلى عن سياق العبودية والاستعمار والهوية الإفريقية المغربية.
بهذا، يتحقق شرط الشكلانية المعتدل: جمال الشكل من جهة، وقوة السياق من جهة أخرى.
إذن لا الشكل وحده
يكفي، ولا المعنى وحده يضيء. الأدب العظيم هو الذي يزاوج بين الاثنين، بحيث يتحول الشكل
إلى وعاء للذاكرة، ويتحول المعنى إلى موسيقى محسوسة.
الشكلانية الجمالي،
إذا فُهم باعتدال، يمكن أن يكون حليف الكاتب المغربي: فهو يدعوه إلى العناية بالبنية
والأسلوب حتى لا يظل أسير سياق محلي ضيق، وفي الوقت نفسه لا يطالبه بالتخلي عن جذوره
أو ذاكرته. بل على العكس: كلما صيغت التجربة المغربية في شكل رفيع، كلما ازدادت فرصتها
في أن تُقرأ عالميًا، لا كوثيقة محلية، بل كعمل فني خالد.
مراجع مقترحة للقراءة:
Clive Bell, Art
(1914)
Arthur Danto,
The Transfiguration of the Commonplace (1981)
Nick Zangwill,
Aesthetic Creation (2007)
Kant, Critique
of Judgment (1790)
دراسات في نقد نجيب
محفوظ والطاهر بن جلون حول العلاقة بين الشكل والسياق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق