منذ البدايات الأولى للتاريخ البشري، ارتبط الدين ببحث الإنسان عن المعنى. وقد شكّلت الأديان عبر العصور الكبرى روافع رمزية تمنح الأفراد والجماعات تماسكاً داخلياً، وإجابات مطمئنة عن أسئلة الموت والمصير والغاية. لكن سر انتشار الأديان لا يكمن فقط في نصوصها المقدسة أو منظوماتها الأخلاقية، بل أيضاً في قدرتها على نسج خطاب جماعي يتجاوز الفرد ليؤسس جماعة متخيلة، كما أشار بندكت أندرسون في تحليله للأمم.
لقد ربط إميل دوركايم
الدين بوظائف التضامن الاجتماعي، بينما ركّز ماكس فيبر على علاقته بأنماط السلطة والشرعية،
معتبراً أن الأديان ساهمت في ترسيخ أخلاقيات العمل أو تعزيز الحكم الكاريزمي. وعلى
المستوى النفسي، يقدم الدين يقيناً مطلقاً يمنح الإنسان، القلق أمام المجهول، طمأنينة
يصعب أن توفرها الفلسفة أو العلم بتفسيراتهما المتغيرة.
غير أنّ عالم اليوم
يشهد صعود أشكال جديدة من الروحانيات الفردية، كالتأمل واليوغا والبحث عن الطاقة الكونية،
أو ما يمكن تسميته بـ"البوذية الغربية". هذه الممارسات لا تنفي الحاجة إلى
المقدس، لكنها تخلّصه من البنية المؤسساتية الصارمة للأديان التقليدية، وتقدّمه في
صورة أكثر سيولة وانفتاحاً، تسمح للفرد بانتقاء ما يناسبه من عناصر متعددة المصادر.
لفهم هذا التحول، يمكن
استدعاء بعض المفاهيم النقدية والفلسفية. فجان بودريار يتحدث عن المحاكاة (Simulation) كآلية يعاد عبرها إنتاج الواقع في صور ورموز
تفوق الأصل نفسه. وفق هذا المنظور، يمكن القول إن المقدس في عصر العولمة الرقمية لم
يعد مرتبطاً بمكان محدد أو مؤسسة دينية، بل بات يُعاد إنتاجه عبر صور وشعائر افتراضية
على الشاشات ومنصات التواصل، حيث يصبح الرمز أقوى من الأصل. فالحج الافتراضي، والصلوات
المباشرة عبر الإنترنت، أو جلسات التأمل الرقمية ليست مجرد بدائل، بل "محاكيات"
تخلق عالماً رمزياً جديداً يوازي التجربة الدينية نفسها.
أما ميخائيل باختين،
فيطرح مفهوم التناص باعتباره تداخل النصوص والخطابات وتفاعلها داخل فضاء ثقافي واحد.
وإذا أسقطنا ذلك على الظاهرة الدينية المعاصرة، نجد أن الأديان والروحانيات الجديدة
لم تعد كيانات مغلقة، بل دخلت في حوار نصي متواصل: آيات تُستحضر في سياقات تنموية،
حكم بوذية تُدمج مع مفاهيم علم النفس الإيجابي، وممارسات يوغا تُقدَّم أحياناً باعتبارها
امتداداً لقيم مسيحية أو إسلامية في التأمل والخشوع. هكذا يتحول المقدس إلى "نص
مفتوح" ينسج ذاته باستمرار من خلال التناص مع خطابات العصر.
بين يقين الأديان التقليدية
وسيولة الروحانيات الحديثة، يظل المقدس قوة فاعلة في حياة البشر. غير أنّ حضوره اليوم
يتخذ أشكالاً هجينة، تُعيد إنتاجه في صور محاكاة وتناص مع خطابات متعددة. وهذا يعني
أن سؤال "لماذا تنتشر الأديان؟" لم يعد محصوراً في التاريخ، بل أصبح مفتوحاً
على الحاضر الرقمي والمستقبل، حيث سيواصل الإنسان البحث عن معنى يتجاوز حدود وجوده
الفردي، وإن جاء هذا المعنى في صورة محاكاة أو نصوص متداخلة تعكس روح زمنه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق