الأحد، سبتمبر 14، 2025

سباق الذكاء الاصطناعي السيادي: من أوروبا والخليج إلى آفاق المغرب: عبده حقي


نعيش اليوم سباقاً محموماً نحو ما بات يعرف بـ الذكاء الاصطناعي السيادي، وهو مفهوم تجاوز حدود التقنية ليحمل في طياته رهانات سياسية واقتصادية وثقافية. لم يعد الأمر مقتصراً على تطوير خوارزميات أو برمجيات، بل أصبح يتعلق بالقدرة على امتلاك السيادة على البيانات، والتحكم في البنية التحتية الرقمية، وصياغة نماذج تعكس القيم واللغات والهويات الوطنية.

إن الذكاء الاصطناعي السيادي لا يعني الانغلاق داخل أسوار الحمائية، بل القدرة على توسيع مجال الاستقلالية. يقوم على مجموعة من الأعمدة الرئيسية: بناء مراكز بيانات محلية قادرة على معالجة كميات هائلة من المعلومات، تطوير كفاءات بشرية مؤهلة من خلال التعليم والتدريب المستمر، تشجيع البحث العلمي والابتكار، صياغة تشريعات تحمي خصوصية الأفراد وتحدد ضوابط الاستخدام، ثم خلق صناعة محلية تعزز حضور الشركات الناشئة والمؤسسات الوطنية في هذا المجال.

ورغم أن الهدف هو تحقيق الاستقلالية، فإن التعاون الدولي يبقى ضرورياً لتبادل الخبرات ووضع معايير مشتركة.

لقد سارعت دول أوروبا إلى الاستثمار في هذه الرؤية عبر مشاريع ضخمة للحوسبة الفائقة وبناء نماذج لغوية محلية، فيما تميزت دول الخليج بحجم استثماراتها وسرعة خطواتها. فعلى سبيل المثال دشنت السعودية استراتيجيات كبرى لبناء مراكز بيانات وإطلاق مبادرات تهدف إلى تطوير الذكاء الاصطناعي باللغة العربية. والإمارات بدورها طورت نموذج "فالكون" العربي وتسعى إلى دمج الذكاء الاصطناعي في التعليم والحياة اليومية. أما مصر وبقية دول المنطقة فقد وضعت استراتيجيات وطنية تجعل من الذكاء الاصطناعي ركيزة لمستقبلها الاقتصادي.

إن هذا السباق لا يقتصر على الهيمنة التقنية، بل يعكس مخاوف أعمق: الحاجة إلى حماية البيانات الوطنية من هيمنة الشركات العالمية، والرغبة في أن تعكس تطبيقات الذكاء الاصطناعي الخصوصية الثقافية واللغوية لكل بلد. كما يشكل هذا التوجه فرصة لتعزيز القدرة التنافسية، خلق وظائف جديدة، وفتح مجالات واسعة للابتكار الاقتصادي والاجتماعي.

غير أن الطريق لا يبدو سهلاً ومعبدا حيث أن تكلفة البنية التحتية هائلة، وتوافر الخبرات المتخصصة يظل محدوداً في كثير من الدول. كما أن صياغة إطار تشريعي متوازن يحمي الخصوصية دون أن يعرقل الابتكار تمثل معادلة معقدة. يضاف إلى ذلك أن أي مشروع سيادي يبقى محتاجاً بدرجة أو بأخرى إلى التعاون مع القوى التقنية الكبرى، ما يفرض نوعاً من التبعية الجزئية.

بالنظر إلى موقعه الجغرافي وتاريخه الثقافي، يمكن للمغرب أن يكون لاعباً فاعلاً في هذا الحراك. فالاستثمار في الذكاء الاصطناعي السيادي سيمنحه فرصة لصياغة نماذج لغوية تستوعب العربية والدارجة والأمازيغية، وتفتح آفاقاً جديدة أمام الأدب والفنون والإعلام. كما يمكن أن يشكل ذلك رافعة لحماية الثقافة المحلية من الذوبان في نماذج عالمية مهيمنة، مع تعزيز موقعه في شراكات عربية وإفريقية وأوروبية.

لكن تحقيق هذا الطموح يتطلب خطوات حاسمة: بناء بنية تحتية قوية، الاستثمار في ترقية البحوث والجامعات، توفير التمويل، وصياغة سياسات عمومية واضحة. عندها فقط يمكن للمغرب أن ينتقل من موقع المستهلك للتقنيات إلى موقع المنتج والشريك في صياغة مستقبل الذكاء الاصطناعي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق