السبت، مايو 04، 2024

مكاشفات : (22) عبده حقي


423

وبنفس عميق، خطوت إلى الأمام، والمفتاح المنسي ممسك بقوة في يدي، وهو رمز للماضي الذي فتح الباب لمستقبل مليء بالاحتمالات التي لا نهاية لها.

424

في حفيف أوراق الشجر اللطيف، أجد العزاء، ملاذًا داخل سيمفونية الطبيعة حيث يتلاشى نشاز العالم إلى همس خافت. كل ورقة، نغمة رقيقة في التركيبة العظيمة للوجود، تنسق لحنًا يتردد صداه في أعماق روحي.

425

وسط أحضان الغابة الخضراء، أحتضنني بين ذراعي الأرض الأم، ويتردد صدى نبضات قلبها في التأرجح اللطيف للأغصان ونفخة الريح. هنا، وسط الشجيرات المتشابكة وأشعة الشمس الخافتة، أجد ملجأً من صخب الحياة الحديثة، وفترة راحة من مسيرة الزمن التي لا هوادة فيها.

426

في الأوراق الهامسة، أسمع حكمة العصور الماضية، وأصواتها القديمة تنقل أسرارًا تتجاوز حدود الفهم البشري. يتحدث كل حفيف عن المرونة والتجديد، وعن دورات أبدية وغير قابلة للتغيير، ويذكرني أنه حتى في أحلك الأوقات، هناك دائمًا ضوء يمكن العثور عليه.

427

عندما أفقد نفسي في أحضان الطبيعة، أشعر بإحساس عميق بالانتماء، كما لو أنني لست سوى خيط واحد منسوج في الحياة المعقدة. هنا، تحت المظلة الخضراء، أنا حر في أن أكون على طبيعتي، مجردًا من التظاهر والتوقعات، وروحي مكشوفة أمام العناصر.

428

في حفيف أوراق الشجر، أجد العزاء، هدوءًا يهدئ أعماق روحي المتعبة ويعيد إيماني بجمال الوجود المتأصل. ففي أحضان الطبيعة، أتذكر مكاني في الكون، كزائر متواضع في رحلة اكتشاف وتحول.

429

في قلب هذه المساحة الشاسعة، تحت سطح البحر المتلألئ، وجدت نفسي منغمسًا في عالم من الغموض العميق. همس لي المحيط بأعماقه اللامتناهية وأسراره التي لا تسبر غورها. كان صوته ناعمًا، لكنه قوي، سيمفونية من الأصوات التي يتردد صداها في الأعماق.

430

لم تكن الهمسات مجرد أصوات، بل كانت قصصًا. قصص من الأعماق، عن المخلوقات التي سكنت في الداخل، عن الألغاز المخفية تحت السطح. كل همسة كانت بمثابة سر، قطعة من قلب المحيط، ولمحة عن روحه.

431

وبينما كنت أستمع، ارتفعت أصوات الهمسات، وأصبحت أصواتهم أكثر وضوحًا. تحدثوا عن الحضارات القديمة، عن الكنوز الغارقة، عن الحكايات المنسية. تحدثوا عن مخلوقات مهيبة، عن كفاحهم وانتصاراتهم، عن رحلاتهم في الأعماق.

432

لم يكن المحيط مجرد مسطح مائي، بل كان كيانًا حيًا يتنفس. لقد كان راويًا، حافظًا للأسرار، حارسًا للأعماق. همساتها، كانت صوتها، طريقتها في مشاركة قصصها، أسرارها مع العالم.

433

وأنا، في عزلتي، استمعت. لقد استمعت إلى همسات المحيط، إلى أسرار الأعماق. لقد استمعت بقلب مفتوح، بعقل فضولي، بإحساس بالدهشة. لقد استمعت، وفي الهمسات، في الأسرار، وجدت عالمًا من العجب، عالمًا من الجمال، عالمًا من الغموض.

434

كان المحيط بهمساته وأسراره عالماً بحد ذاته. لقد كان عالمًا جميلًا ومرعبًا في نفس الوقت، هادئًا وفوضويًا، مألوفًا وغريبًا في نفس الوقت. لقد كان عالمًا يتغير باستمرار، ويتطور باستمرار، ويكشف باستمرار عن أسرار جديدة وقصص جديدة.

435

وبينما كنت أستمع إلى الهمسات، إلى أسرار الأعماق، أدركت أن المحيط لم يكن يهمس لي فحسب، بل كان يهمس للعالم. لقد كانت تشارك قصصها وأسرارها وحكمتها مع أي شخص يرغب في الاستماع إليها.

436

لذا، تحت السطح، همس المحيط بأسرار الأعماق. وأنا، في عزلتي، استمعت. لقد استمعت إلى الهمسات، إلى الأسرار، إلى قصص الأعماق. وفي الهمسات، في الأسرار، وجدت عالمًا من العجب، عالمًا من الجمال، عالمًا من الغموض.

437

نعلي، الذي اعتاد على عناق الأرض التي أحرقتها الشمس، واجه مقاومة أبرد من ضوء القمر. الهوة، جرح في الواقع نفسه، تثاءبت خلفي، ذكرى مرسومة بظلال الغياب. قفزة غريزية مثل نبض الطائر الطنان قبل السقوط. الآن، منظر طبيعي منحوت من الهمسات. كان الهواء، الرقيق والمعدني، يحتك برئتي بحفيف الأحلام المنسية.

438

هنا، كانت الشمس خوخة مصابة بالكدمات، تنزف خطوطًا بنفسجية على قماش من السحب الملونة. أحجار متراصة خشنة، وأسنان من حجر السج تصر في الأفق، تلقي بظلال بشعة تتلوى مثل الثعابين الجريحة. كانت الأرض عبارة عن فسيفساء من الزجاج المكسور، تتلألأ بتألق مثير للأعصاب، وتعكس كل شظية نسخة مشوهة مني - مشهد من الهويات الممزقة.

439

على مسافة بعيدة، تمايلت غابة، وكانت الأشجار عبارة عن أشياء هيكلية بأطراف مثل أصابع مكسورة تخدش السماء الضعيفة. كانت أوراقها، إن أمكن تسميتها أوراقًا، عبارة عن أغشية شفافة تنبض بضوء داخلي، وتُلقي وهجًا أخضر مؤلمًا على المناظر الطبيعية الممزقة. الريح، تنهيدة حزينة، همست بالأسرار عبر هذه الأغصان الطيفية، أسرار أصابتني بالبرد حتى النخاع، هاجس محفور في حفيف أوراق الشجر غير الموجودة.

440

كنت أمشي، وكل خطوة أبذلها بجهد واعي، وكانت الأرض تهدد بالتشقق تحت وطأة ثقلي. كان الهواء، الممتلئ برائحة الفاكهة الناضجة والأوزون،

ملتصقًا بحنجرتي، كرائحة معدنية تسرق التنفس من رئتي. كان الصمت كيانًا حيًا، يضغط على طبلة أذني، ولا يكسره إلا قرع قلبي غير المنتظم، قرع الطبول المحموم في قبر هذا العالم الغريب.

441

هيكل ضخم، نصف مدفون في الرمال الزجاجية، يتجسد على مسافة. كانت تشبه كاتدرائية متهالكة، أبراجها مكسورة وتمتد نحو السماء المكدومة مثل أصابع هيكلية تتشبث بالخلاص. عندما اقتربت أكثر، غمرتني ضخامة المبنى. كان سطحه محفورًا برموز دوامية تنبض بتألق غريب، ومعناها لغة غامضة تتجاوز الفهم البشري.

442

لقد رسمت بقوة غير مرئية، مددت يدي، وتتبعت أطراف أصابعي النص الفضائي. اجتاحتني هزة من الطاقة، وكانت صدمة شديدة جعلتني أترنح. لقد تحول العالم إلى مشهد من الألوان، وتنافر بين الصوت والضوء. ذكريات، ليست ذكرياتي، غمرت ذهني - لمحات مجزأة من حضارة انتهت منذ فترة طويلة، وأحلامها وتطلعاتها محفورة في نسيج هذا المكان المهجور.

تابع


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق