الأحد، يونيو 15، 2025

أكتب كي أختفي: سنابشات وشعرية النصوص الزائلة: عبده حقي


في زمنٍ لم تعد فيه الكلمة باقية، بل تمرّ مثل طيفٍ يترك أثره في الذاكرة ثم يتلاشى، وجدتني مأخوذًا بسؤالٍ قد يبدو غريبًا: هل يمكن أن ننظر إلى سنابشات بوصفه منصةً لخلق أدب جديد، أدبٍ يكتب ليُنسى، لا ليُخلَّد؟ وبوصفي كاتبًا مغربيًا عاشقًا للكتب الورقية، والسطور المكتوبة بالحبر، لم أتوقع يومًا أن أغوص في عوالم "الأدب الزائل"، لكنني اليوم أجد نفسي مضطرًا لإعادة النظر في مفهومي للكتابة، وللزمن الذي تسكنه الكلمات.

سنابشات، ذلك التطبيق الذي بدأ كمنصة للمراهقين لمشاركة لحظاتهم العابرة، بات يفرض حضوره الثقافي في عالم يعيد تعريف الذاكرة والغياب. فنحن هنا أمام فضاء أدبي – إن جاز التعبير – لا يحتفي بالخلود، بل بالجماليات الزائلة، حيث الصورة والنص يعيشان معًا سبع ثوانٍ، ثم يختفيان، كما لو أنهما يعيدان تمثيل لحظة غروب في صحراء مغربية: مدهشة، سريعة، ولا تتكرر.

هذه الفكرة، فكرة الأدب الزائل، ليست جديدة تمامًا. ففي «"العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه التقني"، يتحدث والتر بنيامين عن تراجع "الهالة" التي كانت تحيط بالأعمال الفنية في الأزمنة القديمة، حين كانت تُنتَج لمرّة واحدة. واليوم، لعلّ سنابشات يعيد تلك الهالة بشكل معكوس: لا من خلال التكرار، بل من خلال الاختفاء.

إن النصوص التي تُكتب على سنابشات، سواء أكانت مقتطفات شعرية، خواطر، أو حتى مونولوغات ذاتية قصيرة، لا تسعى إلى البقاء في أرشيف الأدب، بل إلى إثارة لحظة شعورية مكثّفة، أشبه بومضة أو تنهيدة، ثم تمضي. إنها ليست نصوصًا تُقرأ، بل تُشاهد وتُحسّ، وتذوب كما يذوب الحبر في الماء.

حين أتأمل هذه الظاهرة من موقع الكاتب، لا يسعني إلا أن أرى فيها نوعًا من المقاومة: مقاومة لثقافة الأرشفة والتراكم. مقاومة لفكرة الكاتب-الإله الذي يكتب ليُخلِّد. في المقابل، يظهر نموذج الكاتب-الظِل، ذاك الذي يكتب من أجل الحضور المؤقت، ليقول شيئًا بسيطًا ويمضي، كما يقول محمود درويش: "سنكون يومًا ما نُريد".

ثمة بعد فلسفي عميق لهذا النوع من الكتابة. إنها كتابة ضد الطغيان الرقمي الذي يحاصرنا بالتخزين والحفظ وإعادة التذكير. سنابشات، paradoxically، " بشكل متناقض " يُعلّمنا النسيان بوصفه قيمة إنسانية. ونحن في عالمنا العربي، نحتاج ربما إلى هذا النسيان، كي نتحرر من عبء التاريخ الطويل المثقل بالهويات والجراح.

كما أن شعرية النص الزائل لا تنفصل عن جمالية "اللاكتابة" أو "الكتابة المضادة". فحين أكتب شيئًا وأعلم مسبقًا أنه سيزول بعد لحظات، فإنني أحرّره من فخ النقد، ومن ضغط المثالية الأدبية. إنها كتابة طقسية، طهرانية، تقارب طقوس الحذف لدى الصوفيين، حيث الوصول إلى النور يمرّ عبر محو الذات.

ولعل أبرز من التفت إلى هذه الإمكانيات الجمالية الحديثة، الباحث «مارك هانسن» في كتابه «"Feed-Forward: On the Future of Twenty-First-Century Media"، حين اعتبر أن الوسائط الرقمية الحديثة لا تتعلق فقط بالمحتوى، بل بإيقاع الحياة نفسها، وكيف نعيشها. وسنابشات، بتقنيته الزائلة، يعيد تشكيل الإيقاع الداخلي لتجربتنا الحياتية والمعرفية معًا.

قد يرى البعض في هذه الكتابة الزائلة تهديدًا للمؤسسة الأدبية، أو خيانة للقارئ الباحث عن أثر دائم، أو حتى تدميرًا لهُوية الكاتب. لكنني، من موقعي ككاتب مغربي يتأمل التحوّلات الرقمية بروح الشاعر، أعتقد أن في هذا "الزوال" إمكانًا شعريًا عظيمًا، قد لا يعوَّل عليه كأرشيف، لكنه جدير بأن يُختبَر كحياة.

هل سنكتب مستقبلًا قصائد لا تعيش أكثر من دقيقة؟ هل سيُقيم الشعر في إشعار اختفى؟ وهل يمكن أن تُبنى ذاكرة جديدة على أساس من النسيان المتعمَّد؟

هذه الأسئلة ليست تنظيرية فحسب، بل هي دعوة إلى إعادة النظر في معنى أن نكتب في القرن الحادي والعشرين. لأننا، ببساطة، أصبحنا نعيش في نصّ دائم الزوال، وربما علينا – بدل مقاومته – أن نتماهى معه، ونكتبه لا لنحفظه، بل لنودّعه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق