السبت، يونيو 14، 2025

تحولات استراتيجية تعيد رسم خريطة النفوذ المغربي في إفريقيا : ترجمة عبده حقي

في عمق الصحراء الكبرى وعلى امتداد الأقاليم المتأججة في الساحل، تتغير موازين القوى الجيوسياسية بصمت ولكن بعمق. ففي حين تواصل الجزائر انغلاقها على خطاب متشنج يتعامل مع الحراك السياسي في دول الساحل بعدائية وانعدام للبراغماتية، تستثمر المملكة المغربية هذه الفجوة لتعزيز حضورها الاستراتيجي والدبلوماسي في المنطقة.


لم يعد الأمر يقتصر على مفارقات تاريخية في التعبير عن "عداء الجار" بل بات يتعلق بفرص جيو-اقتصادية كبرى. المغرب، ببصيرة سياسية وعقلية استباقية، مدّ يده إلى السلطات الجديدة في مالي، النيجر، وبوركينا فاسو، رغم طابعها العسكري الانتقالي. عوض الانخراط في منطق الإدانة والعزل، كما تفعل الجزائر، اختار المغرب طريق الشراكة والتكامل، إدراكاً منه أن الشرعية السياسية في الساحل اليوم تُبنى على أساس الشعبية والأمن والاستقرار، لا فقط على صناديق الاقتراع.

ففي الوقت الذي تدهورت فيه علاقات الجزائر مع هذه الدول الثلاث إلى مستوى القطيعة الدبلوماسية منذ أبريل 2025، اختار المغرب استقبال وزراء خارجيتها في الرباط، بل واستقبلهم العاهل المغربي محمد السادس شخصياً، في دلالة دبلوماسية لا تخفى. والنتيجة: إعلان التزام ثلاثي من هذه الدول بالانضمام إلى "مبادرة المغرب للأطلسي"، وهي المبادرة التي تهدف إلى فتح ممر لوجستي وتجاري عبر المحيط الأطلسي، يربط دول الساحل بالأسواق العالمية، من بوابة المغرب.

المشروع المغربي لا يقوم فقط على البنية التحتية، بل على الرؤية الجيوسياسية المتكاملة. فالمغرب لا يكتفي بتقديم ممر تجاري، بل يبني مشروعاً شاملاً يشمل ميناءً ضخماً في الداخلة جنوب المملكة، ممول جزئياً من شركاء دوليين أبرزهم الإمارات العربية المتحدة، ويحيط به قطب صناعي ومراكز لتطوير الطاقات المتجددة، من بينها مشاريع لإنتاج الهيدروجين الأخضر والأمونياك.

المبادرة ليست فقط اقتصادية؛ إنها استراتيجية بامتياز. فدول الساحل، من خلال انضمامها لهذه المبادرة، تعترف عملياً بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، مما يُعد نكسة لمواقف الجزائر التاريخية المناصرة لجبهة "البوليساريو". ولعل ما يضاعف من خطورة هذا التحول بالنسبة للجزائر هو أن الدول التي كانت إلى وقت قريب قريبة من مواقفها، باتت اليوم ترى في المغرب شريكاً استراتيجياً موثوقاً أكثر من الجزائر نفسها.

الخطاب الجزائري، الذي ما زال يتحدث بلغة الإدانة والتشكيك في شرعية السلطات العسكرية في الساحل، يتجاهل واقعاً أساسياً: الشعوب هناك تدعم هذه السلطات، أو على الأقل تراها بديلاً أفضل من الفوضى. وبدل أن تمد الجزائر يدها لدول كانت ترتبط معها بعمق جغرافي وثقافي وتاريخي، اختارت مواجهتها بتعنت دبلوماسي واتهامات تفتقر إلى الواقعية السياسية.

لقد أصبحت الجزائر، في نظر العديد من نخب الساحل، دولة تسعى إلى فرض وصايتها بدلاً من بناء شراكات حقيقية. هذا السلوك المتعالي جعلها تخسر فرصاً استثمارية وتنموية ضخمة، في منطقة من العالم تُعد اليوم واحدة من أكثر المناطق الواعدة اقتصاديًا، حيث عدد سكان مالي والنيجر وبوركينا فاسو مجتمعين يناهز 70 مليون نسمة، يشكلون سوقاً ضخمة للاستهلاك والإنتاج، وفرصاً استثمارية غير محدودة.

المغرب لا يتوقف عند المبادرة الأطلسية. فهو يراهن على مشروع استراتيجي موازٍ يتمثل في إعادة رسم خارطة النفوذ الإفريقي من خلال الموانئ والطرق البرية ومناطق التبادل التجاري الحر. فمشروع ميناء الداخلة يُستنسخ من تجربة "طنجة المتوسط"، أحد أكبر موانئ إفريقيا، والذي أصبح بوابة بين أوروبا وإفريقيا.

بفضل هذا المنظور المتكامل، بات المغرب يحظى بدعم غير مسبوق من دول كانت في السابق إما محايدة أو مائلة إلى الجزائر. كما أن تعاون المغرب مع قوى صاعدة مثل الصين وروسيا، ومع شركاء خليجيين، يكرّس موقعه كفاعل إقليمي مركزي في غرب القارة.

في خضم هذا التحول، يتّضح أن الجزائر لم تفشل فقط دبلوماسياً، بل اقتصادياً أيضاً. فبينما تفتح المغرب آفاقاً لوجستية وتجارية لدول الساحل، تُغلق الجزائر حدودها السياسية أمامها. وبينما تتجه الشركات المغربية نحو التوسع في هذا السوق الواعد، تنسحب الشركات الجزائرية أو تُقصى بفعل التوترات السياسية.

وهنا يطرح السؤال نفسه: لماذا لم تستثمر الجزائر في شراكات مع مالي والنيجر وبوركينا فاسو رغم تقاربها الجغرافي والثقافي والتاريخي؟ ولماذا تخلّت عن مشروع الطريق الصحراوي الذي كان يمكن أن يربط الجنوب بالمتوسط ويُحوّل الجزائر إلى بوابة الصحراء نحو أوروبا؟

هل ما يزال الوقت سانحاً أمام الجزائر لتصحيح مسارها، ؟ إذا ما واصلت الجزائر تجاهل هذا التحول العميق، فإنها تخاطر بأن تجد نفسها معزولة عن مجالها الحيوي جنوباً، بينما ترسّخ المغرب موقعه كفاعل محوري في إفريقيا الغربية، ليس فقط على الصعيد الاقتصادي، بل على مستوى إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية في القارة بأسرها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق