في سياق بالغ التوتر في الشرق الأوسط، تزداد الحاجة إلى مواقف سياسية صادقة تترجم الشعارات إلى أفعال. غير أن النظام الجزائري يجد نفسه، مرة أخرى، عارياً أمام الرأي العام، وهو يراوح بين خطاب شعبي مفعم بالشعارات حول "القضايا العادلة" وبين ممارسات واقعية تتسم بالهشاشة والتناقض، كما يتجلى في حادثين متزامنين: توقيف ناشطين جزائريين مناصرين لغزة في مصر، وصمت النظام إزاء التصعيد الإسرائيلي-الإيراني، بما يفضح زيف "أسطورة الجزائر القوة الإقليمية".
لقد كشفت وسائل إعلام
مستقلة عن توقيف عدد من المواطنين الجزائريين في مصر بسبب مشاركتهم في مظاهرات تضامنية
مع الشعب الفلسطيني في غزة. وقد جرى اعتقالهم بعنف، ووُضعوا رهن الاحتجاز وسط صمت تام
من السلطات الجزائرية، ما أثار موجة غضب في أوساط المجتمع المدني الجزائري. فكيف يُعقل
أن يتعرض مواطنون جزائريون للاعتقال بسبب قضية لطالما تغنى بها الإعلام الرسمي، دون
أن تحرك الدولة ساكناً لحمايتهم أو حتى المطالبة بإطلاق سراحهم؟
إن هذا الصمت لا يمكن
تفسيره إلا في ضوء السياسة الانتهازية التي يتبعها النظام، والتي تفضل عدم الدخول في
صدام دبلوماسي مع النظام المصري، ولو على حساب كرامة مواطنيها. إنه صمت لا يعبر فقط
عن تخاذل، بل عن ازدواجية أخلاقية صارخة، تكشف أن ما يُقال عن دعم غزة مجرد ديكور أيديولوجي
للاستهلاك الداخلي.
بالتوازي مع الحدث
السابق، تعيش المنطقة على وقع تصعيد غير مسبوق بين إيران وإسرائيل، وهو نزاع يعكس إعادة
تشكيل التوازنات الجيوسياسية في الشرق الأوسط. ورغم أن هذه المواجهة تمس مباشرة محور
"الممانعة" الذي تدّعي الجزائر الاصطفاف معه، إلا أن موقفها ظل باهتاً، مائلاً
إلى الحياد المبهم أو التحليل التبريري. لا بيان رسمي، لا تحرك ديبلوماسي، ولا حتى
موقف واضح من وزارة الخارجية الجزائرية، وكأن ما يجري لا يعنيها.
فأين هي "القوة
الإقليمية" التي لطالما تحدث عنها الإعلام الجزائري؟ وأين هو "الدور المحوري"
الذي تدّعي الجزائر لعبه في نصرة القضايا العربية؟ هل تتحول هذه الشعارات إلى رماد
حين تصطدم بتوازنات القوى، أم أن ما يُقال داخل حدود الجزائر يذوب عند أول اختبار دولي؟
يرى العديد من المحللين
أن الجزائر تسير بخطى ثابتة نحو تحويل نفسها إلى "قوة كارتونية"، تعتمد على
بروباغندا موجهة للداخل، لكنها تفتقر إلى أدوات التأثير الحقيقي على الساحة الإقليمية.
فبينما تنشغل الدول المحورية في المنطقة بإعادة تشكيل تحالفاتها، تبقى الجزائر حبيسة
شعارات الستينيات، عاجزة عن مواكبة التحولات أو بناء دبلوماسية فعالة.
بل إن ضعف التأثير
الجزائري لا يتجلى فقط في عدم قدرتها على التأثير في الصراع الإيراني-الإسرائيلي، بل
أيضاً في عجزها عن حماية مواطنيها في الخارج، حتى وهم يُعتقلون بسبب تبنيهم نفس القضايا
التي ترفعها السلطة شعاراً في كل مناسبة.
من الواضح أن هناك
انفصاماً خطيراً بين الخطاب السياسي الجزائري وبين سلوك الدولة العملي. فهي تدّعي مناصرة
فلسطين، لكنها تسكت حين يُهان مناصرون جزائريون لغزة في بلد عربي. وهي تدّعي معاداة
الاحتلال، لكنها تقف متفرجة على مواجهة كبرى بين إيران وإسرائيل دون أن تتخذ موقفاً
واضحاً.
إن هذا النوع من الخطاب
المزدوج لا يضر فقط بصورة الجزائر دولياً، بل يضرب مصداقية مؤسساتها داخلياً، خاصة
لدى الجيل الجديد الذي بات قادراً على التمييز بين الخطاب الحقيقي والمسرحيات السياسية.
إن المشهد الحالي يفرض
على الجزائر إعادة النظر جذرياً في نهجها الدبلوماسي، سواء فيما يتعلق بقضية فلسطين
أو بمكانتها الإقليمية. فالقوة لا تُقاس بعدد الخطب الرنانة، بل بالقدرة على حماية
المواطن، والتأثير في الملفات الإقليمية، واتخاذ مواقف مبدئية حين تستدعي اللحظة ذلك.
والأخطر أن الصمت الجزائري
في هذه القضايا لا يُفسَّر فقط بالضعف، بل ربما يُفهم كنوع من التواطؤ الضمني مع أنظمة
لا تقل قمعاً عن الكيان الصهيوني، بما في ذلك في تعاملها مع المتضامنين مع غزة. وهنا
يصبح السؤال حتمياً: هل تريد الجزائر أن تكون فعلاً قوة إقليمية، أم تكتفي بالبقاء
مجرد كاريكاتير من الماضي يلوح براية القضايا العادلة دون أن يدفع ثمن الدفاع عنها؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق