حين أتأمل ما يحدث حولي، في شوارع المدن المزدحمة، في نشرات الأخبار، في وجوه الناس، أكتشف أننا نعيش، كما لو كنا موضوعات في مختبر كبير، نتعرض لتجارب معقدة لا نعرف نتائجها. في هذا السياق الملتبس، أعود إلى ثلاث شخصيات فكرية صاحبتني كثيرًا في محاولاتي لفهم السلطة الحديثة: ميشيل فوكو، وهانا أرندت، وكارل بولانيي. لقد كان لكل واحد منهم مفتاحٌ مختلفٌ لفهم العنف الكامن في التنظيم الحديث للعالم، وجميعهم، يضيئون لي الزوايا المظلمة من واقع يبدو أحيانًا محكمًا مثل آلة، وأحيانًا فوضويًا مثل كابوس.
لقد صاغ فوكو مفهوما
هزّ يقيني بأن الدولة فقط هي من تحتكر السلطة. فالسلطة، كما يفهمها، ليست سيفا مسلطًا،
بل شبكة ممتدة، دقيقة، متغلغلة في التفاصيل اليومية. تحدث عن «السلطة الحيوية»، تلك
التي لم تعد تقتل لتثبت سيادتها، بل تنظم الحياة لتعيد إنتاج الخضوع، بصمتٍ وانسياب.
يتحدث فوكو عن كيف أصبحت الحياة نفسها – الولادة، الصحة، الجنس، الجسد – مادة للسيطرة.
لم نعد خاضعين فقط للدولة بل لمؤسسات وممارسات تدّعي العناية بنا، لكنها تُنتجنا ككائنات
قابلة للحساب، للرصد، وللضبط.
وهنا لا أستطيع إلا
أن أستحضر لحظة جائحة كورونا حين أُغلقت الحدود، واحتُجزت الأجساد، وتحوّل الإنسان
إلى رقم في تقارير يومية. رأيت كيف تعمل السلطة الحيوية دون الحاجة إلى قمع مباشر،
بل عبر الرعاية. بدا لي أن فوكو تنبأ بعصرٍ لم نعد فيه نخشى السلطة، لأننا لا نراها،
لكنها تحيط بنا كما يحيط الهواء بالرئتين.
لكن ماذا عن الطغيان؟
ماذا عن تلك اللحظة التي لا تكتفي فيها السلطة بضبط حياتنا، بل تسحق إنسانيتنا؟ هنا
تظهر لي هانا أرندت، بشجاعتها الفلسفية، حين جلست لتفكك آليات التوتاليتارية. إن أرندت
لا ترى الطغيان مجرد انحراف في الحكم، بل بنية عقلية، ومنظومة تُنتج البشر باعتبارهم
قطعًا قابلة للاستبدال، وتنزع عنهم القدرة على الفعل، على التفكير، على الاختلاف.
تحدثت أرندت عن «عادية
الشر»، حين شاهدت محاكمة أدولف أيخمان، فصُدمت بأن منفذ محرقة اليهود لم يكن وحشًا
ساديًا، بل موظفًا عاديًا، مطيعًا، بلا خيال أخلاقي. في تلك اللحظة، فهمت أن الطغيان
لا يولد من الكراهية فقط، بل من الطاعة العمياء، من مؤسسات تُفرغ الأفراد من مسؤوليتهم
الأخلاقية، وتحولهم إلى تروس في آلة لا تسأل عن المعنى، بل عن الإنجاز.
حين أنظر حولي اليوم،
وأتساءل: هل نعيش فعلاً في نظام مختلف؟ ألا تُنتج بعض أنظمة الحكم الحديثة هذا النوع
من البشر الممتثلين، القابلين للتوجيه من دون مساءلة؟ في لحظات الخوف الجماعي، حين
يخضع الناس للرقابة طواعية، وحين يتنازلون عن حرياتهم مقابل "الأمن"، أرى
نبوءة أرندت تتجلى من جديد.
ثم تأتي ضربة ثالثة
من كارل بولانيي، الذي جعلني أفهم كيف يمكن للسوق، في ظل هيمنته النيوليبرالية، أن
يتحول إلى سلطة لا تقل خطورة عن الدولة الشمولية. في كتابه «التحول الكبير»، أظهر بولانيي
أن أسطورة السوق الحرة لم تكن سوى وهم أيديولوجي؛ فالأسواق لم تنشأ طبيعيًا، بل فُرضت
بقوة القانون، وكانت دائمًا مدعومة من الدولة.
ما أثارني في فكر بولانيي
هو فكرته بأن «تفكيك المجتمع لصالح السوق» لا يؤدي إلى الحرية، بل إلى الخراب. حين
يُجبر العمال على التنافس، وتُحوّل الطبيعة إلى سلعة، ويُختزل الإنسان إلى "رأس
مال بشري"، تنهار الروابط الاجتماعية، ويعم التوتر والعنف. رأيت هذا في بلدي،
حين صارت قطاعات الصحة والتعليم خدمات تُقاس بالربح والخسارة، لا بالحاجة والكرامة.
اليوم، أتابع تحوّل
السياسات إلى آليات محاسبة، والعدالة إلى مؤشرات رقمية، والهوية إلى ملف قابل للضغط
والإرسال، وأدرك أن السوق لم تعد فقط ساحة للتبادل، بل أصبحت هيكلًا اجتماعيًا يعيد
تشكيل الإنسان وفقًا لقواعده الخاصة.
ثلاثة مفكرين، إذن،
وثلاثة مفاتيح: فوكو يعيد تعريف السلطة كشبكة متغلغلة في الحياة اليومية، أرندت تفضح
الطغيان كمنظومة تفكيك الإنسان، وبولانيي يكشف خدعة السوق كأداة للتحرر، بينما هي في
الواقع أداة للسيطرة.
وبين هذه المفاهيم،
أحاول أن أجد طريقي كمواطن، كمثقف، وكجسدٍ في هذا العالم المتحوّل. أحاول أن لا أكون
أيخمان، الذي نفّذ الأوامر بلا سؤال. أحاول أن أقاوم اختزالي إلى رقم في قاعدة بيانات.
أحاول أن أقول لا، حين تُصبح الحرية ترفًا، والكرامة مخاطرة، والحق في التفكير فعلاً
متمردًا.
إن فهم هؤلاء الثلاثة
لا يُعطيني حلولًا جاهزة، لكنه يوقظ فيّ الحذر، ويمنحني أدوات للتأمل، وربما – وهذا
هو الأهم – يمنحني الشجاعة لأقول، في وجه الطغيان أو السوق أو السلطة: "أنا أرى،
وأنا أفكّر، ولن أكون ترسًا في آلة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق