في زمن تتعالى فيه نداءات الاتصال الدائم، وتتنافس التطبيقات على جذب انتباهنا في كل لحظة، يأتي كالف نيوبورت بكتاب جريء وعميق يعاكس التيار السائد، عنوانه: "التقشف الرقمي: اختيار حياة مركّزة في عالم مليء بالتشتت". في هذا الكتاب، لا يكتفي نيوبورت بانتقاد آثار التكنولوجيا الحديثة، بل يرسم منهجًا فلسفيًا وعمليًا للعيش بطريقة رقمية أكثر وعيًا. إنه لا يدعو إلى الرفض الكامل للتكنولوجيا، بل إلى استخدام انتقائي، واعٍ، وموجّه نحو ما يخدم القيم العميقة للفرد.
ينطلق نيوبورت من فرضية
أساسية تقول إن التكنولوجيا ليست مجرد أدوات بريئة، بل هي مصمّمة عمدًا لجذب انتباهنا
واستغلال وقتنا. فمنذ ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وحتى انتشار الهواتف الذكية، بدأ
الإنسان يفقد سيطرته على وقته وتركيزه، دون أن يدرك ذلك. وبدلًا من أن تكون التكنولوجيا
وسيلة لتحسين الحياة، أصبحت غاية بحد ذاتها.
في هذا السياق، يُعرّف
"التقشف الرقمي" بأنه فلسفة في استخدام التكنولوجيا، تقوم على الالتزام بتقليل
استخدام الأدوات الرقمية إلى الحد الأدنى الضروري، مع التركيز فقط على ما يضيف قيمة
حقيقية إلى حياتك. إنه نقيض الثقافة الرقمية السائدة، التي تقوم على كثرة التطبيقات،
والإشعارات المتتالية، والحضور الدائم في الفضاء الافتراضي.
يُبرز نيوبورت، بلغة
واضحة وأسلوب مدروس، أن ما يدفع الناس إلى الانغماس في عوالم الإنترنت ليس فقط الإدمان
أو الرغبة في الترفيه، بل غياب البدائل التي تمنح شعورًا بالمعنى. وهنا يُطرح سؤال
وجودي: ما الذي يجعل حياتك ذات قيمة؟ هل هو عدد الإعجابات؟ أم التفاعل على منشور عابر؟
أم قدرتك على بناء علاقات إنسانية عميقة، أو تحقيق إنجاز فكري أو مهني؟
يؤكد نيوبورت أن التقنية
يجب أن تكون خادمة للقيم، لا معيقة لها. ومن هذا المنطلق، يدعو القارئ إلى مراجعة استخدامه
لكل أداة رقمية بناءً على مدى خدمتها لقيمه الجوهرية. لا بأس أن تمتلك حسابًا على تويتر
مثلًا، لكن متى كان آخر تفاعل فيه فعّالًا أو مثريًا؟ هل يدفعك نحو الإبداع أم يستهلك
طاقتك الذهنية بلا عائد؟
أحد أهم المقترحات العملية في الكتاب هو ما يسمّيه المؤلف بـ "تجربة التقشف الرقمي لمدة 30 يومًا". في هذا البرنامج، يدعو نيوبورت القارئ إلى الامتناع الكامل عن الاستخدام غير الضروري للتكنولوجيا لمدة شهر كامل، ثم العودة بعده بوعي وانتقائية شديدة. هذا الانقطاع المؤقت ليس غاية، بل وسيلة لإعادة ضبط علاقتنا مع العالم الرقمي.
ويؤكد الكاتب من خلال
أمثلة عديدة أن من خاضوا هذه التجربة وجدوا أنفسهم أكثر إنتاجًا، وهدوءًا، وتواصلاً
مع ذواتهم والآخرين. لم يكن الانقطاع انسحابًا، بل تحررًا.
يمضي نيوبورت إلى نقد
الثقافة الاستهلاكية التي تبنتها كبرى شركات التكنولوجيا. فهذه الشركات لا تقدم خدماتها
مجانًا، بل مقابل "انتباهك"، الذي أصبح العملة الأهم في العصر الحديث. فكل
نقرة، وكل تمرير، وكل مشاهدة، تُسجّل وتُستثمر في خوارزميات تهدف إلى إبقائك أطول وقت
ممكن على المنصة.
وهنا يستحضر نيوبورت
أفكارًا قريبة من أطروحات نيكولاس كار في كتابه
"The
Shallows"،
وكذلك نيل بوستمان في "تسلية حتى الموت"، حيث تشير جميعها إلى أن التكنولوجيا
ليست مجرد أداة، بل منظومة ثقافية تؤثر على طريقة تفكيرنا، وقراراتنا، وعلاقاتنا.
في مجتمعات مثل المجتمعات
العربية، التي تشهد تسارعًا رقميًا دون مصاحبة كافية للوعي الثقافي أو التربوي، يصبح
حديث نيوبورت أكثر إلحاحًا. فالإدمان على الهواتف، وتراجع ثقافة القراءة، وتفكك الانتباه،
باتت أمراضًا اجتماعية مشتركة. بل إن العلاقة بين الأفراد أصبحت مهددة بتفوق
"الشاشة" على "الحوار".
من هنا، فإن
"التقشف الرقمي" ليس مجرد خيار شخصي، بل موقف ثقافي، بل ربما مقاومة رمزية
ضد الاستلاب الرقمي الذي يسلب الإنسان حقه في التركيز، والتأمل، والفراغ المنتج.
يمثّل كتاب "Digital
Minimalism" "التقشف الرقمي" صرخة واعية في وجه فوضى رقمية صاخبة. ليس
لأنه يعادي التكنولوجيا، بل لأنه يعيد الإنسان إلى مركز المشهد، ويمنحه السلطة في زمن
الهيمنة الخوارزمية. وفي ظل عالم عربي يعاني من تراجع التفكير النقدي، وتضخم التبعية
للثقافة الاستهلاكية الرقمية، فإن هذا الكتاب يقدم أداة تحريرية بامتياز، تبدأ من الهاتف
الذكي، ولا تنتهي عند استعادة الذات.
من يقرأ كالف نيوبورت
لا يخرج بخطة تقنية فحسب، بل برؤية وجودية جديدة: كيف أعيش حياة رقمية ذات معنى؟ كيف
أكون سيد وقتي؟ وكيف أستخدم التكنولوجيا دون أن تستخدمني؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق