السبت، يونيو 07، 2025

صعود السرد التفاعلي في زمن الحكايات متعددة النهايات: عبده حقي


أنا ابن هذا العصر الرقمي، الذي لم يكتفِ بهدم جدران الورق، بل أعاد تشكيل العلاقة بين الكاتب والنص والقارئ. منذ سنوات، وأنا أراقب منبهراً – لا بصفتي كاتباً فقط، بل قارئاً أيضاً – كيف تنمو وتتشكل ظاهرة "القصص التفاعلية"، تلك الحكايات التي لم تعد تنتهي عند السطر الأخير، بل تبدأ منه. هذا الصنف الأدبي الذي كان يُنظر إليه يوماً كترفيه موجه للأطفال والمراهقين في كتب "اختر نهايتك بنفسك"، صار اليوم حقل تجريب خصب لأدب المستقبل.

لقد أصبحت القصص التفاعلية – أو ما يُعرف بالـ «Interactive Fiction» – تجسيداً لفكرة أن السلطة السردية لم تعد حكراً على الكاتب. لقد صار القارئ مساهماً في صنع المعنى، وفي تحديد مسار الأحداث، بل حتى في صياغة نهايات النص. وكأن رولان بارت حين تحدث عن "موت المؤلف" في مقاله الشهير عام 1967، كان يتنبأ بزمن كهذا، حيث تُسند زمام الحكي إلى القارئ، فيتشارك مع النص نفس القدر من السلطة.

في المغرب، ورغم أن التربة الأدبية لا تزال تميل إلى الحنين إلى الرواية الكلاسيكية ذات البناء الخطّي، إلا أنني ألمس تغيراً بطيئاً، لكن واعداً حيث بعض الكُتاب الجدد، خصوصاً من جيل الرقمنة، باتوا ينظرون إلى الشكل التفاعلي كأداة لتحرير السرد من قيوده الزمنية والمكانية. فالخيال لم يعد مرتبطا بخريطة مسبقة، بل صار فضاءً مفتوحاً، تتفرع فيه السطور كأنهار تتجه نحو مصائر متغايرة، يُحددها فضول القارئ أكثر مما يُحددها منطق السرد التقليدي.

ومن الأمثلة العالمية التي ألهمتني كثيراً، لعبة «80 Days» المستوحاة من رواية جول فيرن، والتي حولت النص الروائي إلى رحلة تفاعلية تمزج بين الأدب والخيال، وبين الجغرافيا والسرد المتشعب. كما أذهلتني تجربة  «Bandersnatch، إحدى حلقات المسلسل التفاعلي «Black Mirror» على منصة نتفليكس، التي قلبت العلاقة التقليدية بين الشاشة والمشاهد، وحولته من متلقٍ سلبي إلى صانع قرار، له أن يختار، ويعيد الاختيار، ويتأمل عواقب قراراته.

ما يميز النص التفاعلي أنه لا ينفصل عن البنية التكنولوجية التي تحتضنه، بل يستمد منها قدرته على التعدد والتمفصل. فليس من الغريب أن يتقاطع هذا النمط الأدبي مع علوم البرمجة والخوارزميات، ويستفيد من تقنيات «hypertext» وAI narrative engines  لبناء عوالم مرنة، لا تخضع للزمن الخطي، بل تدور وتتشعب وتتشظى.

لكن مع هذا الزخم، تنبع أسئلة جوهرية: هل ما نعيشه اليوم هو انعتاق فعلي للخيال أم أنه شكل آخر من أشكال هيمنة الخوارزمية على الحكي؟ وهل القارئ فعلاً يختار، أم أن اختياراته محددة سلفاً ضمن شبكة من الاحتمالات التي رسمها مبرمج مجهول؟ هذه الأسئلة تضعنا أمام ما يسميه بول ريكور "أزمة التأويل"، حيث يصبح المعنى لا نهائياً، لكنه في الآن ذاته مُهدد بالتبديد.

أذكر هنا ما جاء في كتاب "Cybertext: Perspectives on Ergodic Literature" للباحث النرويجي إسبن آرسيث، حيث ميز بين النصوص التقليدية التي تُقرأ، وتلك التي يجب أن تُفكّ، تُختبر، تُكتشف. السرد التفاعلي، بحسب آرسيث، لا يُستهلك كما تُستهلك الرواية الكلاسيكية، بل يُمارَس كمغامرة معرفية. وهذا بالضبط ما يجعلني مؤمناً بأننا أمام لحظة تحول سردي، قد توازي في أثرها لحظة ابتكار الطباعة.

إن صعود الأدب التفاعلي، بما فيه من تعدد الأصوات، وتكسير الحدود بين النص واللاعب/القارئ، لا يُنهي الرواية الكلاسيكية، بل يعيد تعريفها. وفي رأيي، فإن هذا الشكل الجديد لا يُقصي "الكاتب"، بل يُجبره على التواضع، على أن يكون مصمم مسارات، لا نبي نهايات.

قد لا تنتشر هذه التجربة في المغرب بسرعة، لكنها ستفرض نفسها – آجلاً أو عاجلاً – على المشهد السردي، مثلما فرضت الصورة هيمنتها على الكلمة. والسؤال ليس ما إذا كنا سنقبل بها، بل كيف سنُحوّلها إلى أداة تعبير عن هويتنا، عن ذاكرتنا، عن تناقضاتنا، وعن انشغالاتنا الوجودية، في زمن أصبح فيه كل قارئ مشروع كاتب، وكل نص مساحة مشتركة للتفاوض على المعنى.

لست متأكداً من النهاية، تماماً كأي قصة تفاعلية. لكني متيقن أن السرد، كما أعرفه، لن يكون كما كان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق