في تطور غير مسبوق ينذر بهزات ارتدادية داخل المؤسسة الأمنية الجزائرية، فجّرت واقعة انشقاق ضابط استخبارات جزائري بارز في روما جدلاً واسعاً في أروقة النظام. يتعلق الأمر بالضابط برتبة "الليوتنان كولونيل مروان"، رئيس مكتب الأمن بالسفارة الجزائرية في العاصمة الإيطالية، والذي اختفى منذ أيام رفقة عائلته بعد أن رفض أوامر مفاجئة بالعودة إلى الجزائر، ليختار الاستقرار سراً في سويسرا أو ربما في هولندا، حسب تسريبات متقاطعة.
تكمن خطورة هذه الحادثة
في كون الضابط الهارب كان يحتل موقعاً شديد الحساسية داخل جهاز الاستخبارات الخارجية
الجزائري، المعروف باسم "المديرية العامة للتوثيق والأمن الخارجي" (DDSE) هذا الجهاز، الذي يعدّ نظيرًا لجهاز "DGSE" الفرنسي، يُكلف بمهام التجسس الدبلوماسي،
ورصد الجاليات الجزائرية في الخارج، وتنسيق عمليات استخباراتية مع دول مضيفة.
وقد أوكلت لمروان،
منذ أكثر من ثلاث سنوات، مهمة إدارة مكتب الأمن بالسفارة الجزائرية في روما، البلد
الذي يُعد من أهم الشركاء الاقتصاديين للجزائر وخاصة في ملف الغاز. وهو بذلك كان مطلعاً
على ملفات تتعلق بصفقات التسليح، والاستثمارات الإيطالية في الجزائر، والتعاون السري
بين الأجهزة الاستخباراتية للبلدين، بل وكان يراقب السلك الدبلوماسي ذاته لضمان
"الولاء" للنظام.
يُذكر أن هذا المكتب
لا يقتصر دوره على التنسيق الأمني الخارجي فحسب، بل يتعداه إلى رصد أي تحركات مشبوهة
من قبل موظفي السفارة أو الجالية الجزائرية أو النشطاء المناهضين للنظام. وعليه، فإن
الشخص الذي يُدير هذا المكتب يجب أن يكون على دراية تامة بكل الخيوط السياسية والأمنية
والاقتصادية المرتبطة بالعلاقات الجزائرية الإيطالية.
حسب معلومات استقصائية
متقاطعة، كان مروان مرشحاً للترقية إلى إدارة مكتب الأمن بالسفارة الجزائرية في باريس،
لما لهذه العاصمة من أهمية كبرى لدى النظام الجزائري نظراً لحجم الجالية الجزائرية
هناك، وتشابك المصالح مع فرنسا على مختلف الأصعدة. بل وتحدثت المصادر عن احتمال تعيينه
لاحقاً في مدريد بعد تحسن العلاقات مع إسبانيا.
ما يزيد الطين بلّة
أن مروان كان مقرباً من شخصيات رفيعة في محيط الرئاسة الجزائرية، من بينهم السكرتير
الخاص للرئيس عبد المجيد تبون، وأحد المستشارين الأمنيين الكبار. كما ارتبط اسمه بجنرال
نافذ في جهاز الأمن الداخلي سابقًا، وهو الجنرال "بوززا"، الذي أدار لسنوات
شبكات تأثير إلكتروني هدفت لضرب الحراك الشعبي وتفكيكه عبر خطاب شعبوي يخلط بين النزعة
الإسلامية والقومية، وخاصة استهداف منطقة القبائل.
انشقاق مروان المفاجئ
وقع بعد أن تلقى أوامر مستعجلة من الجزائر تطلب عودته الفورية، دون تبرير مقنع. وقد
أبدى تحفظه وطلب تأجيل الرحلة إلى ما بعد نهاية السنة الدراسية لأبنائه في روما، لكن
الطلب قوبل بالرفض، بل تم منحه مهلة 48 ساعة فقط للامتثال. عندها، شعر مروان – وفقاً
لمصادر مقربة – بوجود نية لتوقيفه أو معاقبته، فاختار الهروب في خطوة قد تفتح عليه
أبواب اللجوء السياسي في إحدى الدول الأوروبية.
وتشير معطيات مسربة
إلى فتح تحقيق داخلي ضده من طرف "مديرية أمن الجيش (DCSA)
للاشتباه بتسريبه معلومات إلى نشطاء إلكترونيين معارضين في الخارج.
إلا أن الاتهامات لا تزال دون أدلة دامغة، ويغلب عليها الطابع الظني.
الخطر الحقيقي، حسب
مراقبين، يكمن في أن هذا الضابط الهارب يشكل “خزان أسرار” يحتوي على معلومات استراتيجية،
منها ما يتعلق بتعاون أمني وعسكري مع دول حليفة، مروراً بمعلومات استخباراتية دقيقة
عن الجاليات والمراقبة الخارجية، ووصولاً إلى ملفات حساسة تخص أجهزة السلطة وشبكات
نفوذها داخل الجزائر وخارجها.
في ظل هذا السياق،
تسود تساؤلات محورية: كيف غفل النظام عن اتخاذ إجراءات استباقية لاحتواء الأزمة؟ ولماذا
لم تُفعّل قنوات أكثر مرونة وحكمة في التعاطي مع شخص بهذه الحساسية؟ وهل سيقع هذا
“الخزنة البشرية” في يد أجهزة استخبارات أجنبية منافسة؟ وإن حصل ذلك، ما حجم التسريبات
التي قد تطال الأمن القومي الجزائري؟
الصحافة الجزائرية
الرسمية، كعادتها، التزمت الصمت المطبق. أما الإعلام المستقل، فاختار الانتظار والتريث
خوفاً من الوقوع في فخ “نشر الأسرار العسكرية”. غير أن أسئلة الشارع تبقى مشروعة: هل
ما حدث يُعبّر عن حالة فردية؟ أم أن المنظومة الأمنية الجزائرية تشهد تصدعات عميقة
بعد سنوات من إعادة الهيكلة والقمع الداخلي؟
الحقيقة المؤكدة حتى
الآن أن "الليوتنان كولونيل مروان" لم يعد في روما، ولا في متناول السلطات
الجزائرية. الرجل الذي عرف كل شيء عن الملفات الكبرى، اختفى دون أثر، حاملاً معه شيفرات
دولة. والجزائر، حتى إشعار آخر، باتت مهددة ليس فقط بالتسريبات، بل بزوال وهم سيطرتها
على مفاتيح اللعبة الاستخباراتية في الخارج.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق