تبرز أطروحة شوشانا زوبوف في كتابها "عصر رأس المال الرقابي" كجرس إنذار وتحليل حاد لتغيرات جذرية تشق مسارها بهدوء في صميم المجتمعات الحديثة. الكتاب، الذي صدر في عام 2019، يشكل لحظة مفصلية في فهم العلاقة بين الاقتصاد الرقمي، السلطة، والخصوصية، من خلال ما تسميه زوبوف "الرأسمالية الرقابية" أو Surveillance Capitalism، وهي تسمية تتجاوز الاقتصاد إلى الفلسفة والسياسة والوجود الإنساني ذاته.
وفق زوبوف، لم تعد
شركات التكنولوجيا الكبرى، وعلى رأسها "غوغل" و"فيسبوك"، تكتفي
بتقديم خدمات رقمية مقابل المال أو الاشتراك، بل باتت تستخرج "الفائض السلوكي"
للمستخدمين — أي البيانات التي ينتجها الإنسان من خلال سلوكياته اليومية على الإنترنت
— لتحويلها إلى نماذج خوارزمية تتنبأ بسلوكه المستقبلي. ويتم بعد ذلك بيع هذه التنبؤات
إلى أطراف ثالثة (المعلنين، الحكومات، شركات الأمن...)، مما يخلق سوقًا جديدة بالكامل
قوامها الإنسان كـ"مادة خام" رقمية.
تقول زوبوف إن هذه
الرأسمالية الجديدة لا تسعى فقط إلى معرفة ما نريده، بل تسعى إلى «توجيهه وتشكيله»،
بما يجعل الإنسان غير واعٍ للتحكم الذي يُمارس عليه باسم "التخصيص" و"الراحة
الرقمية". لقد باتت السيطرة على المستقبل البشري جزءًا من منطق السوق، وبذلك يتم
تقويض الإرادة الحرة تدريجيًا.
يتميز الكتاب بسعة
نطاقه، فهو ليس مجرد نقد تقني لشركات وادي السيليكون، بل عمل فلسفي وسياسي موسوعي،
يستحضر أفكار «ميشيل فوكو» عن السلطة الحيوية، و»هانّا أرندت» حول الطغيان، وحتى تصور
«كارل بولانيي» عن الأسواق التي تتغول على المجتمع. إن زوبوف لا تصرخ في وجه التقنية
بقدر ما تصرخ في وجه احتكارها واستخدامها كأداة سيطرة خفية.
أحد أبرز ما يعالجه
الكتاب هو كيف نجحت هذه الشركات في تطبيع جمع البيانات والتجسس، عبر مفاهيم مثل
"التجربة الشخصية"، "الخدمة المجانية"، و"التحسين المستمر"،
وكيف تحول المستخدم إلى "عامل غير مدفوع الأجر" في مصنع لا يدرك أنه يعمل
فيه.
تربط زوبوف بين تآكل
الخصوصية وتآكل الحريات. فهي ترى أن الرأسمالية الرقابية ليست مجرد تهديد تقني بل «تهديد
وجودي للديمقراطية». فإذا كان المواطن لا يعرف كيف يتم توجيهه وتحديد اختياراته، فكيف
يمكن أن يمارس حرية القرار أو التصويت أو الاعتراض؟ الخصوصية، في هذا السياق، ليست
مجرد حق فردي، بل شرط أساسي لأي نظام ديمقراطي حر.
ومن أخطر ما تشير إليه
زوبوف أن بعض الحكومات، خاصة ذات الطابع السلطوي، بدأت تعتمد نفس منطق الشركات الرقابية،
بل وتتعاون معها، لخلق نماذج مجتمعية تخضع للمراقبة المستمرة — نموذج "المدينة
الذكية" قد لا يكون ذكياً بقدر ما هو أداة للمراقبة الشاملة، كما في بعض تجارب
الصين.
يُحسب لزوبوف أنها
لا تقدم خطاباً تشاؤمياً صرفاً، بل تدعو إلى شكل من "المقاومة الرقمية"،
من خلال سياسات تشريعية جديدة، وتعزيز الشفافية، وفرض رقابة على عمل الشركات الكبرى،
وإعادة الاعتبار لحق المستخدم في السيطرة على بياناته. وهي ترى أن ما نحتاجه ليس فقط
قانوناً لحماية الخصوصية، بل «إعادة هندسة للمنطق الاقتصادي الذي يربط البيانات بالربح».
ورغم أن البعض انتقد
الكتاب لطوله المفرط (يزيد عن 700 صفحة) ولطغيان النبرة التحذيرية، إلا أن ذلك لا يقلل
من قيمته الفكرية والتحليلية. هو كتاب يؤسس لفهم جديد للمرحلة الرقمية، كما فعل فوكو
مع السجون، وأرندت مع الشمولية، وكاس سانستين مع "التحكم في الاختيار" (Nudge).
وأنا كمغربي يتابع
التحولات الرقمية بقلق وتأمل، أجد أن طرح زوبوف يتقاطع مع واقع عربي تتنامى فيه المراقبة
باسم الأمن، وتُنتزع فيه البيانات دون وعي جماعي، وسط هشاشة الوعي الحقوقي. نحن في
مرحلة نستهلك فيها "الرقمنة" دون أن نفهم من يملكها فعلاً، أو كيف تعيد تشكيل
وعينا وسلوكنا، بل حتى تصوراتنا عن أنفسنا ومجتمعنا.
لقد حان الوقت لنفكر
في التكنولوجيا بوصفها «فضاءً سياسياً»، لا مجرد أدوات. فكما لا نسلم مدننا دون بلديات
منتخبة، لا يجب أن نسلم بياناتنا دون مساءلة أو رقابة.
"عصر رأس المال الرقابي" ليس مجرد كتاب،
بل عدسة جديدة لفهم عصرنا، وتحذير من مستقبل قد تُباع فيه ليس فقط منتجاتنا، بل قراراتنا
ونوايانا وأحلامنا. شوشانا زوبوف وضعت إصبعها على جرح لم يعد صغيراً، بل يهدد بنية
الوعي الإنساني نفسه. السؤال الآن: هل ننتظر أن يُعاد تشكيلنا بالكامل قبل أن نحتج؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق