السبت، سبتمبر 20، 2025

فلسفات إفريقية في معنى الحياة: عبده حقي


يبدو سؤال معنى الحياة وكأنه لغز أبدي تتداوله الثقافات والفلسفات عبر العصور. غير أنّ الفكر الإفريقي قدّم إجابات متعددة وغنية، تزاوج بين الروحي والاجتماعي والأخلاقي، وتفتح أمام الإنسان أفقاً مغايراً عن التصورات الفردانية التي سادت في كثير من التيارات الفلسفية الغربية.

تتجلى إحدى الرؤى في نظرية الغاية الإلهية، حيث يُنظر إلى الله أو الكائن الأسمى باعتباره المانح الأول للمعنى. فالحياة تكتسب قيمتها حين يسعى الإنسان إلى تحقيق ما قُدّر له، والالتزام بالقوانين الإلهية والطقوس والواجبات الاجتماعية. هنا يصبح الوجود رحلة نحو مصالحة مع ما يعتقد أنه إرادة العلوية.

وفي اتجاه آخر، تتبلور نظرية القوة الحيوية التي ترى أنّ في كل كائن طاقة روحية أو قوة خفية تتجدد وتتعاظم عبر السلوك الأخلاقي، والعدل، والعناية بالجسد والروح. يصبح المعنى مرتبطاً بقدرة المرء على تنمية هذه القوة، بما يضمن استمرار الحياة في بعدها الفردي والجماعي.

أما النظرية المجتمعية المعيارية فتضع الجماعة في قلب السؤال. فالإنسان لا يكتسب صفة "الشخص" إلا من خلال اندماجه في النسيج الاجتماعي وممارسته لمسؤولياته تجاه الآخرين. المعنى هنا ليس معطى فردياً بقدر ما هو نتيجة الانتماء والمشاركة في الخير العام.

وفي بعض المدارس الإفريقية، يتخذ الحب موقعاً محورياً. فالحياة ذات مغزى حين تُبنى على المحبة الصادقة للذات وللآخرين، حتى الغرباء منهم. هذه الرؤية تجعل من العاطفة الأخلاقية أساساً لكل القيم والمعايير.

وتبرز أيضاً النظرية اليوروبية العنقودية، حيث يرى الفلاسفة من قبيلة اليوروبا أنّ معنى الحياة ليس مفهوماً أحادياً بل شبكة متداخلة من "خيرات العيش": العمر الطويل، الثروة المادية، الأسرة والأبناء، القدرة على تجاوز المحن. كل عنصر منها مهم، لكن اكتمالها معاً هو ما يمنح الوجود وزنه الحقيقي.

ومن زاوية أخرى، يعتبر بعض المفكرين أنّ معنى الحياة يكمن في بلوغ الاكتمال الإنساني أو الشخصانية؛ أي أنّ الإنسان يولد قابلاً ليكون "شخصاً"، لكنه لا ينال هذه الصفة إلا عندما يجسّد الفضائل ويؤدي واجباته داخل المجتمع.

وأخيراً، تقترح النظرية المحاورية (أو الحوارية) أنّ المعنى ليس غاية نهائية بل سيرورة متواصلة من الحوار: حوار مع الذات، وحوار مع الآخر، وحوار مع القيم التي تتحرك داخل الثقافة. بهذا المعنى يصبح الوجود سلسلة من الأسئلة والتأملات أكثر منه إجابة نهائية.

هذه الرؤى تكشف عن ثراء الفلسفة الإفريقية في تناول سؤال الوجود. فهي لا تفصل الروح عن الجسد، ولا الفرد عن الجماعة، ولا الإنسان عن الطبيعة. بل تنسج لوحة متكاملة ترى في الحياة تداخلاً بين القدر والإرادة، بين الحب والواجب، بين الحوار المستمر وإرادة الفعل.

ولعل في هذه الأطروحات ما يهم القارئ العربي والمغربي على وجه الخصوص، حيث يمكن مقارنتها بالتصوف الإسلامي، أو بالقيم الأمازيغية والعربية في التضامن والعائلة، لنكتشف أنّ البحث عن معنى الحياة، وإن اختلفت لغاته وتقاليده، يظل واحداً من أعمق علامات إنسانيتنا المشتركة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق