السبت، سبتمبر 20، 2025

محاورات بين فلاسفة ومفكرين معاصرين (2) سارتر ودو بوفوار: عبده حقي


بين أربعينيات وستينيات القرن الماضي، شكّلت الحوارات التي جمعت جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار في إطار مجلة الأزمنة الحديثة أحد أبرز لحظات الفكر الفلسفي والسياسي الأوروبي. لم تكن تلك الجلسات مجرد تبادل للأفكار، بل كانت مختبراً مفتوحاً لصياغة مفاهيم الوجودية، الحرية، الالتزام، وقضايا النوع الاجتماعي في زمنٍ يعاد فيه بناء العالم على أنقاض الحرب العالمية الثانية. من قلب باريس، حيث كان المثقفون يتأرجحون بين إغراءات الماركسية، صدمات الستالينية، وطموحات التحرر الفردي والجماعي، تبلورت حوارات تكشف عمق العلاقة بين الفلسفة والسياسة، وبين النص النظري والتجربة المعيشة.

منذ تأسيسها عام 1945، أراد سارتر ودو بوفوار لمجلة الأزمنة الحديثة أن تكون أكثر من منبر للنشر الأدبي أو الفلسفي. لقد اعتبروها أداة للتدخل المباشر في قضايا عصرهم، وجسراً يربط الفكر بالفعل. ولعلّ تسجيلات الحوارات بينهما تبيّن كيف أن النقاش حول الوجودية لم يكن منعزلاً عن قضايا الحرية السياسية والتحرر الاجتماعي.

في تلك الحوارات، يظهر مفهوم الحرية باعتباره حجر الزاوية للفكر السارتري. الحرية ليست مجرّد اختيار فردي، بل هي مسؤولية أخلاقية تجاه الآخر. في المقابل، دفعت دو بوفوار النقاش أبعد، إذ أكدت أن الحديث عن الحرية لا يكتمل دون مواجهة البُنى الاجتماعية التي تعيقها، وعلى رأسها البطريركية. هنا يتقاطع الفلسفي مع الاجتماعي، ليضع أسساً مبكّرة لنقاشات النسوية الوجودية.

لقد سعى سارتر إلى تحرير الفلسفة من برجها العاجي، مؤكداً أن الكاتب لا يملك رفاهية الحياد. الالتزام بالنسبة له كان استجابة لأحداث كبرى مثل مقاومة الاحتلال النازي، الحرب في الجزائر، وقضايا العالم الثالث. هذه الرؤية جعلت من المثقف شاهد عصره ومشاركاً في معاركه. دو بوفوار بدورها لم تكتفِ بالتنظير، بل جسّدت التزامها عبر الدفاع عن قضايا النساء ونشر شهادات تفضح البنى الذكورية، وهو ما جعل كتابها الجنس الآخر (1949) أحد النصوص التأسيسية للقرن العشرين.

واحدة من أبرز ملامح تلك الحوارات هي التوتر الخلاق بين الفردانية الوجودية والنزعة الجماعية السياسية. فبينما كان سارتر يصر على أن الإنسان محكوم بالحرية حتى في أقسى الظروف، كانت دو بوفوار تنبّه إلى أن الحرية الفردية لا يمكن أن تزهر في ظل غياب عدالة اجتماعية تضمن تكافؤ الفرص. هذه الجدلية جعلت من الأزمنة الحديثة مختبراً لنقاشات ما زالت حية اليوم: كيف نوازن بين الذات والآخر، بين الاستقلالية الفردية والتضامن الجماعي؟

ما ميّز هذه الحوارات أنها لم تبقَ حبيسة قاعات النقاش الباريسية، بل امتدت إلى ميادين مختلفة: من حركات التحرر الوطني في إفريقيا وآسيا، إلى الموجة الثانية من النسوية في الغرب، إلى النقاشات الراهنة حول الالتزام السياسي للفنان والمثقف. إن استعادة تلك الحوارات اليوم تكشف عن إرث مزدوج: إرث نقدي يدعو إلى مساءلة السلطة أينما كانت، وإرث تحرري يربط الحرية الفردية بكرامة الآخر.

إن قراءة حوارات سارتر ودو بوفوار ليست مجرد رحلة في تاريخ الفلسفة المعاصرة، بل هي أيضاً نافذة على أسئلة لم تفقد راهنيتها: هل يمكن للكاتب أن يكون محايداً في زمن الأزمات؟ ما معنى الحرية إذا كانت نصف البشرية – النساء – محرومة من شروطها؟ وكيف يمكن للفكر أن يتجاوز التنظير ليصبح قوة فاعلة في العالم؟ لقد كانت تلك الحوارات شهادة على زمن مضطرب، لكنها أيضاً دعوة مفتوحة لنا اليوم لمواصلة الحوار بين الحرية والالتزام، بين الذات والعالم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق