السبت، سبتمبر 20، 2025

الحب بين الأمومة والفلسفة: ترجمة عبده حقي


الحب كلمة صغيرة، لكنها أرحب من البحار. منذ فجر الإنسانية، والإنسان يحاول أن يفسر هذا الشعور الذي يسكنه، يتأرجح بين النشوة والخذلان، بين العاطفة العمياء والحكمة الرصينة. أرسطو وصفه بالحكمة، سقراط اعتبره جحيماً، شكسبير صاغه جنوناً، وديكارت رآه عقدة عقلية. غير أن إريك فروم، الفيلسوف وعالم النفس الاجتماعي، قدّم في كتابه الشهير "فن الحب" رؤية جديدة ترى في الحب ليس قدراً غامضاً، بل فناً يحتاج إلى تعلّم وممارسة وصبر وانضباط.

يرى فرويد أن الحب يبدأ منذ اللحظة الجنينية، حين يحتاج الجنين في رحم أمه إلى دفء العاطفة بقدر حاجته إلى الغذاء. هذه العلاقة الأولية، كما يوضح فروم، هي التي تؤسس لشخصية الإنسان لاحقاً. حب الأم هنا حب مطلق، غير مشروط، لا يميز بين الأبناء، قائم على المساواة والاحتضان الكلي. إنه أشبه برحمة إلهية تفيض على الطفل دون مقابل.

لكن سرعان ما يكتشف الطفل وجهاً آخر للحب: حب الأب. هنا يتحول الحب إلى تجربة

مشروطة بالقوانين والطاعة والانضباط. الأب يمثل العدالة، الثواب والعقاب، المسؤولية. وبذلك، تتشكل صورة الإنسان عن العالم وعن الله: من جهة رحيم ومطلق كالأم، ومن جهة أخرى عادل وقاسٍ كالآب.

مع النضج، ينتقل الإنسان إلى مرحلة ثالثة: الاستقلالية. عليه أن يصبح أباً وأماً لنفسه، أن يحمي ذاته كما تحمي الأم، وأن يفرض على نفسه قوانين كالتي يفرضها الأب. هذا التحول شرط أساسي للحب الناضج، الذي لا يقوم على التبعية بل على الحرية والوعي بالذات.

لكن هذا الحب الناضج يتعرض اليوم إلى تشويه عميق. في المجتمعات الرأسمالية، كما يحذر فروم، تحوّل الحب إلى سلعة استهلاكية، تُباع في الإعلانات وتُعرض في واجهات المشاهير. صارت العلاقة أشبه بصفقة تجارية، حيث يقاس الشريك بمقدار الجمال الخارجي أو المكانة الاجتماعية أو الثروة المادية.

هذا الوضع خطير، لأنه يجعل الإنسان يعيش داخل قطيع، يفقد فردانيته، ويطارد معايير مفروضة من الخارج. فالمرأة تُقاس بمكياجها وأناقتها، والرجل يُقاس بثرائه ومظهره، وكلاهما ينخرطان في سباق محموم لتلبية توقعات السوق. هنا يصبح الحب مجرد عرض استهلاكي، يفقد جوهره الإنساني العميق.

فروم يرى أن هذا الانحراف لا يهدد فقط الأفراد، بل يشوه معنى الحب ذاته. فبدل أن يكون قوة توحيد بين البشر، أصبح عرضاً مسرحياً يلهي المجتمع، ويحوّل العلاقات إلى عقود تجارية بلا روح.

في مواجهة هذا الانزلاق، يقدم الفلاسفة الرواقيون نموذجاً آخر للحب. فالحب عندهم، ليس نزوة عاطفية عابرة، بل امتحان للحكمة وضبط النفس. موسونيوس روفوس اعتبر أن العلاقة الجنسية بالتراضي والاعتدال فاضلة، لكنها تنحرف حين تصبح رغبة مسمومة أو خيانة أو هيمنة. شيشرون شدّد على أن الدخول في علاقة يتطلب قلباً متحرراً من العقد والمشاعر السلبية، لأن الحب لا يمكن أن يكون علاجاً لجرح داخلي غير ملتئم.

ماركوس أوريليوس، الإمبراطور الفيلسوف، أوصى بقبول ما يجمعنا به القدر، لا كواجب اجتماعي بل كقناعة نابعة من الداخل. أما إبيكتيتوس، فقد نبه إلى أن الانجذاب الأولي مجرد مشاعر عابرة، وأن السعادة لا تقوم على اللحظة العاطفية، بل على بناء حياة فاضلة متوازنة.

الرواقيون لم يرفضوا الحب، لكنهم وضعوه تحت سقف العقل. رأوا أنه ضروري، طبيعي، لكنه يصبح خطراً إذا استسلم الإنسان للشهوة أو الغيرة أو الهوس. عندهم، السعادة الحقيقية تكمن في الاعتدال، وفي علاقة مبنية على الفضيلة لا على الانفعال اللحظي.

في النهاية، يلتقي طريق فروم مع طريق الرواقيين في نقطة مركزية: الحب ليس وقوعاً، بل وقوف. هو وقوف الإنسان أمام نفسه وأمام الآخر وأمام العالم. عند فروم، الحب قوة داخلية تقتحم الجدران التي تفصل الفرد عن الآخرين، فيتحد بالعالم دون أن يذيب فردانيته. عند الرواقيين، الحب اختبار للفضيلة وضبط النفس، فلا حب حقيقي من دون عقلانية ووعي.

الحب الناضج، كما يصفه فروم، يجعل الفرد قادراً على أن يقول: "أحبك"، وفي الوقت ذاته يقول: "أحب نفسي والعالم من خلالك". هو ليس سلعة ولا عقداً، بل تجربة إنسانية تجعل اثنين يصبحان واحداً، ومع ذلك يظلان اثنين. إنه اتحاد لا يلغي التمايز، بل يحتفي به.

من رحم الأم، حيث يبدأ الحب مطلقاً، إلى قوانين الأب، حيث يصبح مشروطاً، وصولاً إلى الاستقلالية، حيث يصير الإنسان أباً وأماً لنفسه، تتشكل رحلة الوعي العاطفي. هذه الرحلة، إن لم تُفسدها السوق أو الاستهلاك، تقود إلى حب ناضج، متوازن، عادل.

الحب، في صورته العميقة، ليس جحيماً ولا جنوناً، ولا معضلة عقلية. إنه فن العيش ذاته. إنه القوة التي تردم الهوة بين الفرد والعالم، وتحوّل عزلتنا إلى مشاركة، ووحدتنا إلى اتحاد. الحب بهذا المعنى، كما رآه فروم والرواقيون، هو مدرسة للنضج الإنساني، وفلسفة للوجود، وطريق طويل نحو الحرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق