السبت، سبتمبر 20، 2025

الذكاء الاصطناعي بين الهاتف والتلفاز: عبده حقي


منذ عقود قليلة، غيّر التلفاز صورة العالم وأدخل ملايين البشر في فضاء جديد من الترفيه والمعلومة. بعده بسنوات، جاءت ثورة الهواتف الذكية لتصبح امتداداً لأجسادنا، لا نفارقها إلا في النوم. واليوم، يقف العالم أمام ثورة ثالثة قد تكون أعمق: الذكاء الاصطناعي التوليدي، وتجسيده الأبرز في شات جي بي تي ، الذي تجاوز 700 مليون مستخدم نشط شهرياً في فترة قياسية.

لكن الأرقام وحدها لا تكفي لفهم التحول. ما تكشفه الدراسات الأخيرة هو تغيير نوعي في العلاقة بين الإنسان والآلة. إذ تشير المعطيات إلى أن أكثر من ثلثي المحادثات مع شات جي بي تي  لا علاقة لها بالعمل أو الدراسة، بل تتجه إلى الحياة اليومية: طلب وصفة، نصيحة تربوية، إجابة عن فضول معرفي، أو حتى مشاركة لحظة شخصية. هذا يعني أن الآلة لم تعد مجرد أداة إنتاج، بل أصبحت جزءاً من النسيج الاجتماعي والثقافي.

في بداية الألفية، كان الإنترنت أشبه بـ"مكتبة ضخمة"، يتوجه إليها المستخدم ليبحث عن المعلومة. أما اليوم، فإن شات جي بي تي  يقوم بدور مختلف: هو لا يقدّم النصوص الجاهزة فقط، بل يعيد صياغتها، يبسطها، ويكيّفها وفق حاجات كل فرد. هذا يشبه انتقالنا من المعلومة الخام إلى المعلومة الموجهة شخصياً. إنها خطوة إضافية في تاريخ المعرفة، تجعل التفاعل مع النصوص أقرب إلى الحوار مع "معلّم خاص" متاح للجميع.

كما كان الهاتف المحمول في بداياته أداة فاخرة لنخبة محدودة قبل أن يصبح في جيب كل شخص، يعرف شات جي بي تي  مساراً مشابهاً. الدراسات تشير إلى تزايد اعتماده في بلدان الجنوب، حيث يرى فيه الكثيرون وسيلة لتجاوز نقص المكتبات، ضعف الأنظمة التعليمية، أو محدودية فرص التعلم. هذا البعد الاجتماعي يفتح الباب أمام إعادة رسم ملامح الفوارق الرقمية بين الشمال والجنوب.

إحدى الملاحظات اللافتة أن نسب الاستخدام بين النساء والرجال أصبحت متقاربة، بل إن النساء في بعض الفئات العمرية أصبحن أكثر إقبالاً على استخدام شات جي بي تي . وهو تحول رمزي مهم، يعكس أن التكنولوجيا الجديدة لا تحتكرها النخب الذكورية كما كان الأمر في بدايات الإنترنت أو ألعاب الفيديو.

السؤال الجوهري الذي يطرحه الباحثون اليوم هو: هل نتعلم نحن من شات جي بي تي  أكثر مما يتعلم هو منا؟ فكل تفاعل، مهما كان بسيطاً، يغذي النماذج الخوارزمية ويجعلها أكثر دقة. بهذا المعنى، يمكن القول إن المستخدم يساهم في "تربية" الذكاء الاصطناعي، في الوقت نفسه الذي يستعين فيه به لحل مشاكله. إنها علاقة تبادلية غير مسبوقة، تثير أسئلة فلسفية عن حدود الوكالة الإنسانية في زمن تتسع فيه سلطة الخوارزميات.

ما يحدث الآن يشبه اللحظة التي دخل فيها التلفاز إلى البيوت أو لحظة انتشار الهواتف الذكية. لكن الفرق أن شات جي بي تي  لا يقدّم لنا صورة أو اتصالاً فقط، بل يقدّم لغة وحواراً، أي جوهر الوعي الإنساني نفسه. ولهذا، فإن تأثيره قد يتجاوز بكثير وسائل الإعلام والتقنيات السابقة، ليتحول إلى عنصر مركزي في تشكيل الثقافة، التعليم، والسياسة في العقود المقبلة.

إنها ثورة صامتة، لكنها عميقة. ثورة قد تغيّر ليس فقط طريقة عملنا وتعلمنا، بل طريقة تفكيرنا في علاقتنا بالآلة، بل وحتى تصورنا لمعنى الإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق