السبت، سبتمبر 20، 2025

الصحافة المحلية في الفضاءات الافتراضية: عبده حقي


لم تعد الصحافة المحلية أسيرة الجغرافيا أو الورق، بل هي اليوم أفقًا جديدًا في الفضاءات الافتراضية، وبالأخص في بيئة الواقع الافتراضي. هذا التحول هو انعطافة أنثروبولوجية في علاقة الإنسان بالخبر والمعلومة، تشبه إلى حد بعيد التحول الذي أحدثه الراديو في القرن العشرين أو التلفزيون في ما بعد. وكما يرى والتر بنيامين في مقالته عن "العمل الفني في عصر إعادة الإنتاج التقني"، فإن وسائط الإعلام الجديدة لا تغير فقط وسيلة العرض، بل تعيد صياغة الوعي الجمعي وطرق التلقي.

في الواقع الافتراضي، تتجاوز الصحافة المحلية وظيفتها التقليدية كناقل للأحداث القريبة من المواطن، لتصبح تجربة غامرة يتماهى فيها المتلقي مع الحدث نفسه. بدل أن يقرأ المواطن خبرًا عن اجتماع بلدي في قريته، قد يجد نفسه جالسًا فعليًا في القاعة الافتراضية، يرى وجوه المسؤولين ويسمع أصواتهم، كما لو كان حاضرًا باللحم والدم. هذا الانخراط الكلي يعيد الاعتبار لقيمة "المشاركة" التي لطالما افتقدها الإعلام التقليدي.

لكن هذا التحول لا يخلو من إشكالات معقدة. فالتجربة الغامرة قد تُغري بتسطيح الحدود بين الحقيقة والتمثيل، إذ يصبح الخبر مشهدًا، وقد يتماهى المشهد مع لعبة أو محاكاة. هنا يطل علينا سؤال أخلاقي: هل يمكن للصحافة المحلية أن تحافظ على وظيفتها الرقابية والتنويرية داخل فضاء يعيد تشكيل الواقع كعرض مسرحي دائم؟

الدراسات الحديثة مثل تقرير Reuters Institute Digital News Report (2024) تؤكد أن التداخل بين الأخبار والترفيه يزداد خطورة في البيئات الغامرة، مما يستدعي تطوير معايير مهنية جديدة.

ومن زاوية أخرى، يفتح الواقع الافتراضي أفقًا واسعًا أمام القرى والمناطق النائية، حيث تصبح العزلة الجغرافية أقل وطأة. قرية جبلية في الأطلس المغربي، على سبيل المثال، قد تنقل مهرجانها المحلي إلى فضاء افتراضي يشارك فيه العالم كله، لتتحول الصحافة المحلية إلى أداة للتبادل الثقافي العالمي. يشبه الأمر ما أشار إليه مانويل كاستلز في حديثه عن "مجتمع الشبكة"، حيث تنهار المسافات أمام الشبكات الرقمية ويولد نوع جديد من "المحلية الكونية".

غير أن هذه الفرص تصطدم بعقبة البنية التحتية الرقمية، خاصة في دول الجنوب. فبينما تستثمر شركات كبرى مثل "ميتا" و"مايكروسوفت" في منصات الواقع الافتراضي، يبقى السؤال مطروحًا حول قدرة المجتمعات المحلية على امتلاك هذه الأدوات، لا مجرد استهلاكها. وهذا يعيد النقاش إلى مفهوم "العدالة الإعلامية" الذي طرحه باولو فريري في نظرياته حول التربية النقدية، حيث لا يكفي توفير الوسائل التقنية دون تمكين فعلي للفاعلين المحليين من إنتاج محتواهم.

إن مستقبل الصحافة المحلية في الفضاءات الافتراضية مرهون بمدى قدرتها على التوفيق بين الأصالة والابتكار، بين الحفاظ على روحها الرقابية والديمقراطية وبين استثمار تقنيات الغمر والتشخيص. ولعل التحدي الأكبر يكمن في ألا تتحول التجربة إلى مجرد "عرض" يستلب المتلقي بدل أن يمنحه قوة نقدية. فكما أن المرآة قد تكشف ملامحنا، يمكنها أيضًا أن تخدعنا بالانعكاسات.

هكذا يبدو المشهد: فضاء جديد يَعِد بفرص هائلة، لكنه يحمل في طياته مخاطر لا تقل خطورة عن الفرص ذاتها. وما بين الحلم واليقظة، يظل على الصحافة المحلية أن تبتكر لنفسها لغة جديدة تستطيع بها العبور إلى عالم الواقع الافتراضي دون أن تفقد بوصلتها الأخلاقية والاجتماعية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق