الجمعة، سبتمبر 19، 2025

لماذا اختار رائد الذكاء الاصطناعي الأميركي العودة إلى بلده الصين؟ عبده حقي


في خطوة بدت أشبه بصفعة للبيئة الأكاديمية الأميركية، أعلن العالِم الصيني الأميركي سونغ تشون تشو، أحد أبرز العقول في مجال الذكاء الاصطناعي، عودته إلى بكين بعد أكثر من ثمانية وعشرين عاماً قضاها في الولايات المتحدة. لم تكن هذه العودة مجرد قرار شخصي أو عاطفي، بل حملت أبعاداً علمية وجيوسياسية عميقة، كاشفة عن صراع خفي بين رؤيتين مختلفتين لمستقبل الذكاء الاصطناعي، وبين قوتين تتنازعان الريادة التكنولوجية في العالم.

تشو، الذي درّس في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، وبنى لنفسه مكانة علمية مرموقة في الأوساط البحثية الأميركية، أصبح اليوم على رأس معهد بكين للذكاء الاصطناعي العام، ومستشاراً للسلطات الصينية في رسم استراتيجيتها العلمية. عودته لم تكن عادية، بل جاءت محاطة باهتمام رسمي وإعلامي كبير، وكأنها إعلان رمزي عن انتقال المعركة العلمية إلى الضفة الأخرى من المحيط الهادئ.

أحد أبرز أسباب مغادرة تشو للولايات المتحدة هو خلافه الجوهري مع المدرسة الأميركية السائدة في الذكاء الاصطناعي. ففي حين تعتمد شركات مثل أوبن آي و ميتا  وغوغل  على منهجية تضخيم البيانات وتوسيع القدرة الحاسوبية لبناء نماذج أضخم، يرى تشو أن الذكاء الحقيقي ليس في الكم الهائل من البيانات، بل في القدرة على إنجاز مهام معقدة ببيانات أقل، أي بناء نماذج أكثر “ذكاءً” وأقل “غروراً بالحجم.

بالنسبة له، أميركا تُضيّع الطريق بالتركيز على السباق العددي، بينما الصين تمنحه المساحة لتجريب فلسفته الطموحة: الذكاء الاصطناعي العام القادر على التفكير والفهم بشكل أقرب إلى العقل البشري.

لكن الخلاف العلمي لم يكن وحده الدافع. فقد ساهمت التوترات السياسية بين واشنطن وبكين في دفع عدد من العلماء الصينيين للبحث عن ملاذ في وطنهم الأم. القيود الأميركية، الشكوك الأمنية، وصعوبة حصول الباحثين من أصول صينية على التمويل، خلقت مناخاً طارداً. في المقابل، قدمت الصين لتشو موارد هائلة، ودعماً حكومياً مفتوحاً، ومكانة مؤسساتية تليق بوزنه العلمي.

عودة تشو هي انعكاس لتغير أعمق في ميزان القوى العالمية. الصين لا تكتفي باللحاق بالغرب، بل تسعى إلى بناء نموذج بديل للذكاء الاصطناعي، أكثر توافقاً مع رؤيتها السياسية والاجتماعية. بالنسبة لتشو، بكين تمنحه الفرصة ليحوّل نظرياته إلى واقع، بعيداً عن ضغط الشركات الكبرى الأميركية وأجنداتها الربحية.

قصة سونغ تشون تشو تكشف أن المعركة الحقيقية بين أميركا والصين ليست فقط على الأسواق أو أشباه الموصلات، بل على العقول نفسها. كل عالم يقرر أين يعمل وأين يضع طاقته البحثية قد يكون بمثابة جندي في معركة كبرى تحدد من سيقود العالم في عصر الذكاء الاصطناعي.

وبينما يرى الأميركيون في هذه العودة خسارة مؤلمة، ينظر الصينيون إليها باعتبارها انتصاراً استراتيجياً يعزز مكانتهم في سباق الهيمنة التكنولوجية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق