الجمعة، سبتمبر 19، 2025

محاورات بين فلاسفة ومفكرين معاصرين (1) راسل وفتغنشتاين : عبده حقي


منذ زمنٍ بعيد وأنا أتابع أثر الحوارات الفكرية الكبرى التي جمعت فلاسفة ومفكرين وكتّابًا في مختلف بقاع العالم، وأدركت أن هذه اللقاءات تمثل لحظات تأسيسية لصياغة مفاهيم جديدة وتوليد مقاربات غير مسبوقة. فالحوار، على خلاف النصوص النظرية المغلقة، يفتح المجال أمام التفكير في حركيته وتوتراته، ويتيح لنا أن نرى الفيلسوف أو الكاتب وهو يواجه الأسئلة في صيرورتها الحية لا في صورتها النهائية.

لقد برزت في العصر الحديث مئات الحوارات التي شكّلت منعطفات حاسمة في النقاش الفلسفي والأدبي والسياسي، من مناظرة ميشيل فوكو مع نعوم تشومسكي حول الطبيعة البشرية والعدالة، إلى لقاءات هانا أرندت التي أعادت التفكير في معنى المواطنة والمنفى، مرورًا بالحوارات التي جمعت جان بول سارتر بسيمون دي بوفوار، أو تلك التي ربطت إدوارد سعيد بفوكو وبآخرين في قضايا الثقافة والسلطة. إن هذه النصوص الحوارية تكشف عن مناخات فكرية كاملة وعن توترات تاريخية كانت وراء صياغة تصورات جديدة حول الحرية، والعدالة، والهوية، والحداثة.

من هنا جاءت فكرة هذه السلسلة اليومية: محاولة جمع وتأمل أبرز الحوارات التي أسهمت في تشكيل أفق الفكر المعاصر. سأتعامل معها لا باعتبارها أحداثًا معزولة، بل كبنية متكاملة يمكن قراءتها في ضوء أسئلة البحث والنقد. فكل حوار سيتخذ موقعه داخل شبكة واسعة من الإشكالات: بين الفلسفة والسياسة، بين الأدب والمجتمع، بين النظرية والممارسة. والغاية من هذه القراءة ليست فقط إعادة تقديم مادة معرفية، بل تحفيز القارئ على التفكير النقدي ومساءلة موقعه من هذه النقاشات الكبرى.

بهذا المعنى، فإن السلسلة ليست مجرد أرشيف للحوار، وإنما هي تمرين نقدي على قراءة الفكر من داخله، في لحظة إنتاجه وفي سياق توتراته التاريخية. سأكتبها بضمير المتكلم بوصفها مشروعًا معرفيًا شخصيًا، لكنني أضعها أيضًا في متناول القارئ الذي يشارك همّ البحث ويطمح إلى استكشاف كيف تحوّل الحوار إلى أداة مركزية في بلورة المفاهيم وفي مساءلة العالم الذي نعيش فيه.

محاورات راسل وفتغنشتاين في كامبريدج البذور الأولى للفلسفة التحليلية

بين جدران جامعة كامبريدج، في العقد الثاني من القرن العشرين، دارت محاورات استثنائية بين اثنين من أبرز العقول الفلسفية في القرن العشرين: برتراند راسل ولودفيغ فتغنشتاين. هذه المحاورات، التي امتدت بين عامي 1911 و1913، شكلت منعطفاً حاسماً في تاريخ الفلسفة، حيث ساهمت في بلورة الفلسفة التحليلية وتوجيه النقاشات الفلسفية نحو المنطق واللغة باعتبارهما المدخل الأساسي لفهم العالم. لقد أفضت هذه اللقاءات إلى توتر فكري عميق، أحياناً يصل إلى المواجهة، لكنها أنتجت فكراً متجدداً أثمر لاحقاً في أعمال كبرى مثل مبادئ الرياضيات لراسل ورسالة منطقية-فلسفية (Tractatus) لفتغنشتاين.

عندما وصل فتغنشتاين، الشاب النمساوي الموهوب، إلى كامبريدج عام 1911، كان برتراند راسل قد رسّخ مكانته كأحد أعمدة الفلسفة والمنطق الحديث، خاصة بعد عمله المشترك مع ألفرد نورث وايتهيد في مبادئ الرياضيات. كان راسل يبحث عن جيل جديد من العقول القادرة على المضي قدماً في مشروعه المنطقي الطموح، وقد وجد في فتغنشتاين شخصية لافتة: متحمساً، قلقاً، وصاحب نظرة ميتافيزيقية عميقة.

منذ اللقاء الأول، شعر راسل أن أمامه موهبة استثنائية. كتب لاحقاً أنه كان "مندهشاً من قوة فتغنشتاين الفكرية"، لكنه كان في الوقت ذاته على وعي بصعوبة التواصل معه، إذ كان فتغنشتاين يرفض في كثير من الأحيان الاستماع أو تقبل النقد، مسكوناً بيقين داخلي بأنه يحمل مشروعاً فلسفياً متفرداً.

انصبت النقاشات بين راسل وفتغنشتاين على مسألتين محوريتين: طبيعة المنطق، ودور اللغة في تمثيل الواقع. كان راسل قد تبنى فكرة أن المنطق أداة صورية تسمح بتنظيم الفكر وتجنب التناقض، وأن اللغة بدورها يمكن تحليلها من خلال المنطق لتوضيح المعاني. أما فتغنشتاين، فقد ذهب أبعد من ذلك: بالنسبة إليه، اللغة ليست مجرد وعاء محايد للمعنى، بل هي صورة للعالم. إن بنية الجملة، كما كان يكرر، تعكس بنية الواقع نفسه.

هذا التباين كان أساسياً. راسل أراد بناء نسق منطقي شامل يُخضع اللغة لقوانين الرياضيات، بينما رأى فتغنشتاين أن الفلسفة يجب أن تكتفي بتوضيح الحدود بين ما يمكن قوله وما يجب التزام الصمت حياله. في هذا السياق، بدأت تتشكل البذور الأولى لفلسفة الرسالة المنطقية-الفلسفية، التي ستنشر لاحقاً عام 1921، حيث سيصرّح فتغنشتاين بأن "حدود لغتي تعني حدود عالمي".

لقد لعبت هذه المحاورات دوراً مزدوجاً: فمن جهة عمّقت مسار راسل نفسه، إذ دفعه احتكاكه بفتغنشتاين إلى إعادة التفكير في بعض فرضياته حول المعنى واللغة. ومن جهة أخرى، صاغت شخصية فتغنشتاين الفلسفية، حيث خرج من عباءة التلميذ ليصبح مؤسساً لنزعة جديدة داخل الفلسفة التحليلية.

أهم إنجاز لهذه اللقاءات هو تحويل مركز الاهتمام الفلسفي من قضايا الوجود والميتافيزيقا العامة إلى تحليل اللغة اليومية والمنطقية. فبدلاً من التساؤل: "ما الذي يوجد؟"، صار السؤال: "كيف تتشكل قضايا اللغة بحيث تمثل الواقع أو تفشل في ذلك؟". لقد وضع هذا التحول الأساس لما عرف لاحقاً بمدرسة كامبريدج في الفلسفة، والتي أثرت عميقاً على الفلسفة الأنجلوساكسونية بأسرها.

لم تكن علاقة راسل بفتغنشتاين علاقة تقليدية بين أستاذ وتلميذ، بل كانت علاقة مضطربة تتأرجح بين الإعجاب والقلق. راسل كان يرى في فتغنشتاين عبقرية نادرة لكنه كان يخشى اندفاعه وعزلته. أما فتغنشتاين، فكان يعتبر نفسه في مهمة فلسفية لا تسمح بالمساومة، حتى إنه كان يرفض أحياناً الاستمرار في الحوار، مكتفياً بالصمت أو الانسحاب.

ورغم ذلك، لم ينقطع الخيط بينهما. بل إن هذه المواجهات الفكرية الحادة منحت كل طرف دفعاً خاصاً: راسل في استكمال مشاريعه المنطقية والسياسية، وفتغنشتاين في بلورة أسلوبه الفلسفي الخاص الذي سيجعل منه لاحقاً أحد أكثر الفلاسفة تأثيراً في القرن العشرين.

تكمن أهمية هذه المحاورات في أنها جسّدت لحظة انتقالية: من الفلسفة القارية المثقلة بالميتافيزيقا إلى الفلسفة التحليلية المتركزة على الدقة المنطقية والوضوح اللغوي. لقد أسهمت في صياغة منهج جديد يقوم على أن مهمة الفلسفة ليست إنتاج نظريات شاملة عن العالم، بل توضيح اللغة التي نصف بها العالم.

هذه الدلالة تتجاوز مجرد النقاش بين شخصين، لتصبح علامة على تحول كامل في الفلسفة الحديثة. فالمحاورات بين راسل وفتغنشتاين هي في جوهرها رمز للصراع الخلاق بين الرغبة في بناء أنساق كبرى (كما عند راسل) والرغبة في تفكيك حدود القول والفكر (كما عند فتغنشتاين).

إن محاورات راسل وفتغنشتاين في كامبريدج بين 1911 و1913 هي نقطة انعطاف أساسية أعادت تعريف مهام الفيلسوف وأدواته. لقد شكّلت لحظة توتر فكري أطلقت دينامية جديدة امتدت آثارها إلى كل تيارات الفلسفة التحليلية المعاصرة. وإذا كان راسل قد مثل العقل المنظم الباحث عن نسق منطقي شامل، فإن فتغنشتاين جسّد الروح المتمردة التي تضع حدوداً لما يمكن التفكير فيه وما يجب تركه في صمت. ومن بين هذين القطبين، ولدت الفلسفة التحليلية الحديثة بوصفها مغامرة فكرية جديدة في القرن العشرين.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق