في ساحة جامع الفنا، جلست والخوف بعينيها . لم تكن امرأة، بل كانت مرآة مكسورة تنبت من تحت المظلة الحمراء، وتمدّ لي يدًا لا تعرف الفرق بين الخطوط المتقاطعة في راحتي، وخريطة المغرب ما بعد انهيار الجاذبية. كانت تضحك، لكن الضحكة لم تكن تندلق من فمها بل من جوربها المرقّع بلون السحر، وكانت الأوراق تتقلب وحدها كأن الهواء قد قرأ نيّتي في العشق.
أنا الذي جئت إلى مراكش فقط لكي أتيه… وجدت نفسي تحت مظلّة الكلمات التي لم تُكتب بعد.
قالت ، وهي تحرك ورقةً عليها رسم تنّين أزرق يلعق نجمًا ساقطًا: "ستغدو
يا ولدي غنيًا، ثريًا، غارقًا حتى أذنيك في الذهب والابتسامات البلاستيكية." ثم
سحبت ورقة أخرى، كانت خالية، بيضاء تمامًا، كصفحة أولى لرواية لم تبدأ. قالت:
"وستحب امرأة يا ولدي اسمها فاطمة."
تجمّدت الأرض. انفتح فم السوق كحوت أسطوري، وابتلع الباعة، والموسيقيين، وسرب
الحمام الذي كان يحلّق فوق رأسي كأفكار لم تكتمل.
فاطمة؟ من تكون فاطمة؟ هل هي تلك التي كانت ترقص في طفولتي بين زرابي فاس؟ أم
هي السيدة التي قرأت لي الفاتحة يوماً في قطارٍ بين مكناس والبيضاء، ثم اختفت في محطة
لم أسمع بها قط؟ أم فاطمة التي تخيّلتها ذات ليلة في حلم، وكانت تمشي على الماء؟
قلت لها: "أيمكن أن أراها؟"
قهقهت الشوافة، ليس بفمها هذه المرة، بل من عمق أصابعها، من ظلّ عباءتها، من
بقعةٍ على الأرض بيننا، كانت تتسع وتنبض كقلب جريح.
قالت: "إنها ستأتيك حين لا تكون في حاجة إليها. حين تُفلس تمامًا. حين
تبيع معطفك وذاكرتك. حين تنسى اسمك، وتنام في فندق بلا نوافذ. حين تسأل صخرةً عن الوقت
وتبتسم لك."
في تلك اللحظة، شعرت أنني أتحوّل إلى لعبة ورق. وجهٌ من وجوه اللاص، يسافر في
جيوب السواح ويخاف من المطر. لم أعد أنا. كنت اسمي، فقط، يتسكع بين الحشود.
نظرتُ إلى السماء… كانت خالية من الغيوم لكنها ممتلئة بصور ناس ماتوا وهم يضحكون.
إحدى الصور كانت لفاطمة، تلبس ثوبًا أحمر، وتدقّ على دفٍّ مصنوع من الجلد الذي يكتب
عليه المجانين قصائدهم.
"ستحبها لأنك لن تفهمها"،
قالت الشوافة، وهي تنظر إليّ كما لو أنني بئر لا قاع له. "وكلما حاولت فهمها،
ازدادت بُعدًا، وتحوّلت إلى شيء آخر: شجرة برقوق في جزيرة لا يزورها أحد، شبحًا في
مرآة حمّام عمومي، زغرودة في جنازة طفل، اسمًا يتكرر في الصحف لكن لا أحد يعرف من صاحبه."
وبينما كانت تتحدث، بدأ الناس حولي يختفون. الرجل الذي يبيع الثعابين صار زهرةً
برية، والموسيقي الأعمى اختزل إلى نغمة واحدة تدور في الهواء بلا بداية. حتى أنا، لم
أعد أثق في ملمس جلدي، هل أنا من لحم، أم من خيط رفيع يفصل الجنون عن الرغبة؟
"ستحصل على مال كثير"،
قالت الشوافة.
"لكنني أريد حبًا
لا يشبه أحدًا"، قلت.
"فاطمة لا تشبه أحدًا"،
أجابت.
هنا توقفت اللحظة، كما تتوقف ساعة في متحف تحت الماء. بدأت تمطر من تحت الأرض،
وكانت القطرات تهبط إلى الأعلى، ترتطم بقلبي ثم تذوب كحروف قصيدة لا يقرؤها سوى الليل.
فجأة، جاءت فاطمة. نعم، فاطمة، تمشي فوق الحصى كأنها لا تمشي. لم تنظر إليّ،
لكنها عرفتني. ابتسمت، ثم قالت:
"لقد تأخرت كثيرًا
عن القصيدة."
وكانت تحمل مرآةً مكسورة، فيها صورتي، وصورتها، وصورة الشوافة، وكل الصور تتداخل،
تتراقص، تتحوّل إلى طائرٍ أزرق، يصرخ: "هذا ليس حلمًا، بل حُبٌّ كتبه الشيطان
على ظهر قمر."
استيقظت. كنت في غرفتي. لكن التراب في نعلي ما يزال من جامع الفنا، ويدي ما
زالت دافئة من لمس الشوافة، وقلبي… قلبي يحمل اسمًا لا أفهمه : «فاطمة».
وحدها فاطمة تعرف
أن قلبي
محبرة نُسيت في صحراء
وأنني كتبتُ رسائل حب إلى الغيوم
بأصابع مبلّلة بالعطر والجنون.
قالت لي النجمة الأخيرة:
احذر من الساعة، فهي لا تقيس الوقت،
بل تنزفُه.
رأيتُ عينيها في قطرة ماء
فسقطتُ فيها،
وظللتُ أسبح في ضوءٍ
يشبه النسيان.
فاطمة…
الاسم الذي يذوب كلما نطقتُه،
كأن اللغة تخجل من الحقيقة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق