في مطلع الألفية الجديدة،
لم يكن أحد يتوقع أن تتحول رواية بوليسية إلى حدث فكري عالمي يعيد طرح الأسئلة الكبرى
حول المقدس، والسلطة، والرمز، والتاريخ. رواية «شيفرة دافنشي» للكاتب الأمريكي دان
براون، التي صدرت بالعربية عام 2005، لم تكن مجرد عمل تشويقي بقدر ما كانت زلزالًا
ثقافيًا هزّ أركان الوعي الغربي والعربي على حدّ سواء، وأدخل القارئ العادي إلى قلب
النقاشات اللاهوتية والفلسفية التي ظلت حبيسة النخبة الأكاديمية لقرون.
تقوم رواية The Da Vinci Code على بنية سردية محكمة تتقاطع فيها الواقعة
البوليسية مع الفرضية اللاهوتية. تبدأ القصة بجريمة قتل في متحف اللوفر بباريس، لتتحول
شيئًا فشيئًا إلى رحلة بحث عن سرّ دفين يتعلق بشخص المسيح نفسه. في هذا البناء، يبرع
دان براون في توريط القارئ في لعبة الحقيقة والوهم، إذ يتداخل التاريخ الحقيقي مع التأويلات
الخيالية في فضاء سردي يضجّ بالرموز واللوحات والمعادلات الرياضية والأنثوية.
الكاتب لا يقدم وثيقة
تاريخية، لكنه يقدّم ما يشبه الخيال البحثي (Speculative Fiction)، وهو جنس أدبي حديث يمزج بين المعطى المعرفي
والافتراض الفلسفي. لذلك لم يكن غريبًا أن تثير الرواية غضب الكنيسة الكاثوليكية واتهامات
بالتجديف، لأنها طرحت فكرة “الأنوثة المقدسة” كمفهوم موازٍ للسلطة الذكورية في المؤسسة
الدينية، معتبرة أن مريم المجدلية لم تكن مجرد تلميذة للمسيح بل شريكته الروحية والرمزية.
في الجانب الفني، تميزت
الرواية بأسلوب سريع الإيقاع ومجزأ المشاهد، يعتمد على تنقل سردي بين باريس ولندن وأسكتلندا،
مع توظيف تقنيات السيناريو السينمائي في إدارة التوتر السردي. القارئ يجد نفسه في سباق
مع الزمن لفك رموز وألغاز تحمل إشارات إلى ليوناردو دافنشي ولوحاته الشهيرة مثل العشاء
الأخير والموناليزا.
ما يجعل «شيفرة دافنشي»
عملًا فريدًا ليس فقط براعة لغته، بل قدرته على جعل الرمز أداة سردية مركزية، لا مجرد
زينة فنية. فكل رمز في الرواية هو مدخل لمعنى ميتافيزيقي أعمق، سواء تعلق بالهندسة
المقدسة، أو بالأرقام، أو بعلاقة الجسد بالروح. وهذا ما يجعل النص أشبه بـ متاهة معرفية،
حيث يبحث القارئ عن الحقيقة كما يبحث البطل عن المفتاح السري للغز العتيق.
الرهان الفكري للرواية
يتجاوز حكاية الجريمة، ليطرح سؤال السلطة الدينية والمعرفة. فبراون، وإن كان لا يعلن
نفسه فيلسوفًا، إلا أنه يوظف الخيال لطرح فكرة جوهرية: أن التاريخ الذي نعرفه قد يكون
نسخة محرّرة من روايات أخرى أُقصيت أو حُذفت. هنا تلتقي الرواية مع المنظور ما بعد
الحداثي الذي يشكك في السرديات الكبرى ويدعو إلى إعادة كتابة الماضي من زوايا بديلة.
وقد تأثر دان براون،
كما تشير دراسات نقدية، بأعمال مثل Holy Blood, Holy Grail لمايكل بيغنت وريتشارد لي، وبأبحاث حول الرمزية
الجندرية في الفن الديني الأوروبي. في المقابل، أثارت هذه المقاربة نقاشات لاهوتية
حول حدود الخيال الأدبي، ومدى مشروعيته في تناول المقدس. لكن من منظور نقدي، فإن الرواية
لا تمسّ العقيدة بقدر ما تختبر علاقة النص الأدبي بالمقدس كخطاب ثقافي.
حين صدرت النسخة العربية
عام 2005، وجدت الرواية طريقها بسرعة إلى القارئ العربي، الذي كان يعيش موجة انفتاح
على الأدب العالمي عبر الإنترنت والترجمة. تباينت ردود الفعل بين من رأى فيها عملًا
فنيًا جريئًا يحرّك الفكر النقدي، وبين من اعتبرها إساءة للمعتقدات أو ترويجًا لخطاب
غربي يعيد إنتاج الاستشراق بوسائل أدبية.
لكنّ الأهم أن «شيفرة
دافنشي» أسهمت في نشر ثقافة القراءة التحليلية بين فئة الشباب، إذ دفعتهم إلى البحث
عن دلالات الرموز التاريخية والدينية، وربطها بالفن والمعمار والأسطورة. وفي العالم
العربي، ألهمت الرواية نقاشات حول العلاقة بين التراث الديني والفن التشكيلي، كما حفزت
ظهور محاولات عربية لتجريب الرواية الرمزية ذات الطابع المعرفي.
لم يتوقف أثر العمل
عند حدّ الأدب؛ فقد تحولت الرواية إلى فيلم سينمائي ضخم عام 2006 من بطولة توم هانكس،
ما وسّع قاعدة جمهورها عالميًا. ومع ذلك، بقيت الرواية الأصلية أكثر تعقيدًا فكريًا
من الفيلم، لأنها تسمح بتعدد التأويلات وتستدعي مشاركة عقلية من القارئ. فالقراءة هنا
ليست استهلاكًا للأحداث، بل عملية تأويل مستمرة تنقل المتلقي من متعة الغموض إلى تأمل
معنى الحقيقة.
في النهاية، يمكن القول
إن «شيفرة دافنشي» تمثل تحولًا في وظيفة الرواية الحديثة: من مجرد حكاية إلى منصة فكرية
تتحدى القارئ وتربكه وتستفزه معرفيًا. فهي تكشف عن قلق الإنسان المعاصر بين إيمان يتآكل
وعقل يبحث عن يقين جديد، بين سلطة النص المقدس وسلطة التأويل الإنساني.
لقد استطاع دان براون
أن يصنع من الخيال أداة نقد معرفي، وأن يحوّل الرموز إلى مرايا للوعي الجمعي، وأن يبرهن
أن الأدب – حتى في أكثر صوره شعبية – يمكن أن يكون فضاءً للفكر الفلسفي والنقاش الحضاري.
إنها رواية لا تُقرأ مرة واحدة، بل تُفتح مرارًا، كما تُفتح الشيفرة، بحثًا عن المعنى
الضائع بين الحقيقة والأسطورة.