الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الجمعة، أكتوبر 17، 2025

الميتافيزيقا: البحث عن الحقيقة المطلقة: عبده حقي


 الميتافيزيقا هي واحدة من أقدم وأعمق فروع الفلسفة، إذ تُعنى بالأسئلة الجوهرية حول الوجود والواقع والكَينونة — أسئلة تتجاوز حدود العلوم الطبيعية والملاحظة التجريبية. الكلمة نفسها مشتقة من اليونانية ميتافيزكا (meta ta physika)، أي "ما بعد الطبيعة"، وهو الاسم الذي أُطلق على كتب أرسطو التي جاءت بعد مؤلفاته في الفيزياء.

في جوهرها، تسعى الميتافيزيقا إلى فهم ما هو الحقيقي في نهاية المطاف. فهي تتساءل: ما معنى أن يوجد الشيء؟ ما طبيعة الكينونة، والزمن، والمكان، والسببية، والهوية؟ هل الواقع مادي أم روحي أم مزيج من الاثنين؟ هذه التساؤلات تمسّ مجالات شتّى تمتد من الدين والعلم إلى اللغة والوعي.

يُقسِّم الفلاسفة الميتافيزيقا تقليدياً إلى فروع أساسية، أبرزها:

  1. الأنطولوجيا (علم الوجود) — وهي دراسة الكَينونة والوجود، وتبحث في أصناف الموجودات والعلاقات التي تربط بينها. فهي تتساءل مثلاً: هل المفاهيم العامة مثل «الجمال» و«العدالة» موجودة بشكل مستقل عن الأشياء الجزئية؟

  2. الكوزمولوجيا (علم الكون الفلسفي) — وهو دراسة أصل الكون وبنيته من منظور فلسفي، يختلف عن علم الكونيات الفيزيائي. إنه يسأل: لماذا يوجد شيء بدلاً من لا شيء؟

  3. اللاهوت الفلسفي — وهو التأمل الميتافيزيقي في طبيعة الإله أو المطلق. فقد رأى توما الأكويني في الله "الكائن الضروري"، بينما اعتبر سبينوزا أن الله والطبيعة شيء واحد، في حين تناول كانط فكرة الإله بوصفها حدّاً للعقل البشري.

  4. نظرية الإمكان والضرورة (المودالية) — وهي تدرس معنى الإمكان والوجوب والاحتمال. ماذا يعني أن يكون الشيء ممكناً أو ضرورياً أو عرضياً؟ وقد طوّر فلاسفة معاصرون مثل سول كريبكي وديفيد لويس نظريات “العوالم الممكنة” لمعالجة هذه الأسئلة.

عبر التاريخ، تطوّرت الميتافيزيقا بالتوازي مع العلم والدين. فقد ميّز أفلاطون بين عالم المُثُل الأزلي وعالم الحسّ الزائل، بينما ركّز أرسطو على الجوهر والسببية. وفي العصر الحديث، جعل ديكارت الفكر (أنا أفكر إذن أنا موجود) مركزاً للوجود، ثم جاء كانط ليُحدث ثورة ميتافيزيقية حين رأى أن العقل الإنساني يُشكّل التجربة من خلال مقولات فطرية، وبالتالي لا يمكننا معرفة "الشيء في ذاته".

أما في القرن العشرين، فقد تعرّضت الميتافيزيقا لهجوم من المدرسة الوضعية المنطقية التي اعتبرتها بلا معنى لأنها لا يمكن التحقق من أطروحاتها تجريبياً. ومع ذلك، شهدت عودة قوية في الفلسفة التحليلية والقارية على حدّ سواء. فهايدغر أعاد تعريف الميتافيزيقا بأنها بحث عن معنى الكينونة ذاتها (Sein)، بينما أعاد فلاسفة التحليل المنطقيون تناول قضاياها القديمة بلغة جديدة تعتمد المنطق والدلالة.

وفي عصرنا الراهن، تتقاطع الميتافيزيقا مع الفيزياء والذكاء الاصطناعي وعلوم الإدراك. فأسئلة مثل: ما طبيعة الوعي؟ هل العوالم الافتراضية حقيقية؟ وهل الأكوان المتعددة ممكنة؟ كلها تساؤلات ميتافيزيقية في جوهرها، تُعيد طرح مشكلة الوجود في زمنٍ رقمي وكمّي جديد.

في النهاية، تبقى الميتافيزيقا محاولة الإنسان الأبدية للإجابة عن السؤال الخالد: ما هو الواقع، وكيف ننتمي إليه؟



0 التعليقات: