منذ الإعلان غير الرسمي عن رغبة النظام الجزائري في الانخراط في وساطة أمريكية لتسوية النزاع مع المغرب، تتكاثف الأسئلة حول مدى صدقية هذا التوجه. هل فعلاً يريد الرئيس عبد المجيد تبون فتح صفحة جديدة مع الرباط، أم أنه يسعى فقط إلى كسب ودّ البيت الأبيض في عهد دونالد ترامب دون استعداد حقيقي للسلام؟ الواقع يوحي بأن الجزائر تمشي نحو فخّ سياسي خطير قد يضعها بين المطرقة الأمريكية وسندان التزاماتها القديمة مع روسيا وإيران.
ففي نهاية يوليو
2025، أكدت مصادر أمريكية أن الرئيس تبون عبّر للمبعوث الرئاسي ماساد بُولوس عن استعداد
الجزائر لإبرام اتفاق سلام مع المغرب إذا أُعيد فتح ملف الصحراء المغربية على أساس
جديد. لم تكن هذه الجملة عابرة، إذ التقطتها إدارة ترامب لتبدأ، بالتعاون مع جاريد
كوشنر وستيف ويتكوف، في صياغة "خطة سلام مغاربية" شبيهة باتفاقات أبراهام
لعام 2020.
لكن يبدو أن النظام
الجزائري لم يكن يتوقع أن تؤخذ تصريحاته على محمل الجد. فتبون، كما تقول مصادر دبلوماسية،
كان يهدف إلى تهدئة واشنطن وكسب الوقت في انتظار تغير التوازنات الإقليمية، لا إلى
الالتزام بخطة حقيقية لإنهاء القطيعة مع المغرب.
في عهد جو بايدن، اكتفت
الجزائر بطلب ضمانات أمنية من واشنطن ضد أي تنسيق عسكري مغربي–إسرائيلي يمكن أن يُفهم
كتهديد مباشر. لكن وصول ترامب مجدداً إلى البيت الأبيض قلب المعادلة. فالرجل الذي اعترف
بسيادة المغرب على صحرائه عام 2020 لا يهوى المواربة الدبلوماسية، بل يتعامل بمنطق
الصفقة.
ترامب يرى في الجزائر
شريكاً اقتصادياً محتملاً، شرط أن تُظهر مرونة سياسية. ولهذا، باتت واشنطن تُلوّح بمكاسب
كبرى في مجالات الطاقة والسلاح، مقابل قبول الجزائر بخطة سلام مبنية على مقترح الحكم
الذاتي المغربي تحت السيادة الوطنية للمملكة.
تجد الجزائر نفسها
اليوم في مأزق جيوسياسي غير مسبوق. روسيا، حليفتها التاريخية، مشغولة بحرب أوكرانيا
وغير قادرة على تزويدها بالسلاح المتطور الذي وعدت به. أما الصين، فتعامل الجزائر بمنطق
السوق لا الولاء السياسي، وتربط صفقات السلاح بالقدرة على الدفع النقدي لا بالعلاقات
الأيديولوجية.
ومع تراجع الدعم من
موسكو وبكين، وجدت الجزائر نفسها مجبرة على مغازلة واشنطن، مقدمة عروضاً مغرية تشمل
الغاز الصخري والمعادن النادرة وفتح الأسواق أمام الشركات الأمريكية. بدا المشهد كأنه
"شهر عسل دبلوماسي" قصير بين الطرفين، سرعان ما أفسدته عودة ملف المغرب إلى
الواجهة.
الولايات المتحدة،
التي تعتبر البلدين "شريكين استراتيجيين"، لا يمكنها القبول بصراع مفتوح
بينهما يهدد جنوب أوروبا ويتيح لموسكو وبكين التمدد في المنطقة. لذلك تعمل إدارة ترامب
على فرض تسوية عاجلة خلال ستين يوماً، وفق تسريبات إعلامية أمريكية.
لكن قبول الجزائر بهذه
الخطة يعني عملياً نهاية عقود من العداء الأيديولوجي، وإقراراً ضمنياً بمغربية الصحراء.
أما رفضها، فسيجعلها في مواجهة مباشرة مع واشنطن التي ستعتبرها طرفاً معطلاً للسلام
ومصدر توتر إقليمي. وهنا تكمن "المصيدة": إذا قالت الجزائر "نعم"،
ستفقد ورقة البوليساريو التي شرعنت جزءاً من نظامها العسكري؛ وإن قالت "لا"،
قد تُدرج في خانة الأنظمة المارقة في أجندة ترامب.
قبول السلام مع المغرب
سيضع المؤسسة العسكرية الجزائرية أمام مأزق وجودي. فمنذ عقود، يبرر الجيش ميزانيته
الضخمة وعداءه المزمن بوجود "العدو الغربي". إنهاء هذا العداء سيُفقده مبرر
الإنفاق والتعبئة، وسيخلق فراغاً أيديولوجياً قد يفتح الباب لمطالب داخلية بالمحاسبة
والإصلاح.
أما استمرار العداء،
فسيكلّف البلاد عزلة دولية وتدهوراً اقتصادياً، خاصة إذا فُرضت عليها عقوبات تجارية
أو قيود على واردات السلاح.
ما بين وعود البيت
الأبيض وارتباك قصر المرادية، يبدو أن الجزائر تسير نحو لحظة حاسمة. فإما أن تدخل في
سلامٍ صادق يطوي صفحة نصف قرن من الصراع مع المغرب، أو تقع في الفخ الأمريكي الذي سيحوّلها
من دولة "محايدة" إلى نظامٍ متمرّد على التوازنات الدولية.
وفي كلا الحالتين،
يبقى السؤال مطروحاً: هل يملك النظام الجزائري اليوم شجاعة اتخاذ القرار الصعب أم أنه
سيظل يدور في حلقة الخوف والارتجال، إلى أن يغلق الفخ الأمريكي أبوابه عليه نهائياً؟
0 التعليقات:
إرسال تعليق