الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الثلاثاء، نوفمبر 11، 2025

مستقبل الأدب في عصر الذكاء الاصطناعي: دراسة من إنجاز الكاتب المغربي عبده حقي


مقدمة عامة : 
 منذ زمن بعيد، وأنا أؤمن أن الأدب ليس مجرد نصوص نُسجت لتُقرأ، بل هو كائن حيّ، يتنفس في صدور القرّاء، ويستيقظ في ليالي الكتّاب، ويظل قادراً على ملاحقة العالم وهو يتغير ويتحوّل. الأدب بالنسبة لي لم يكن يوماً زخرفة للغة أو ملاذاً من قسوة الواقع فحسب، بل كان وما يزال وسيلة للقبض على جوهر الوجود، على ما يفلت من بين الأصابع حين نحاول تسميته: الحب، الموت، الذاكرة، الحلم، الغربة، المعنى. وحين أعود إلى البدايات، أجد أن علاقتي بالكلمة تشكّلت في زمنٍ لم تكن فيه الحواسيب سوى آلات عملاقة في مختبرات مغلقة، ولم يكن أحد يتخيل أن الذكاء الاصطناعي سيجلس ذات يوم إلى جوار الكاتب، يناقشه، ويقترح عليه جُملاً أو صوراً شعرية، أو حتى يشاركه في بناء رواية.

واليوم، وقد اجتمع في لحظة واحدة تاريخ طويل من الأدب، وطفرة هائلة في التكنولوجيا، أجد نفسي وجهاً لوجه أمام سؤال وجودي جديد: ما الذي يحدث للأدب حين يدخل الذكاء الاصطناعي إلى مساحته؟ هل يهدده؟ هل يغنيه؟ هل يعيد تعريفه من الأساس؟ وهل أستطيع أنا ككاتب أن أتعامل مع هذا الشريك غير المرئي كامتداد لخيالي، أم كخصم يسعى لسحب البساط من تحت قدمي؟

هذه المقدمة ليست إجابة جاهزة، بل هي محاولة لوضع القارئ داخل التجربة التي أعيشها منذ سنوات: تجربة التفكير، والدهشة، والشك، والافتتان أحياناً، أمام قوة جديدة تدخل ساحة الكتابة.

الأدب كجسد حيّ يتغير مع الزمن

حين أقرأ في تاريخ الأدب، أرى أنه لم يكن يوماً ثابتاً أو معزولاً عن أدوات عصره. الكتابة نفسها وُلدت مع اختراع الخط، والرواية الحديثة لم تكن لتظهر لولا الطباعة وانتشار الصحف والمجلات. ثم جاء السينما والراديو والتلفاز، وكلها غيّرت من طبيعة الحكاية ومن أسلوب السرد. واليوم، يبدو أننا على أعتاب تحول جديد، لا يقل أهمية عن لحظة غوتنبرغ أو ظهور الإنترنت: دخول الذكاء الاصطناعي في قلب العملية الإبداعية.

وأنا أكتب هذه السطور، أستعيد كلمات بورخيس حين تخيل مكتبة لا نهائية، تتسع لكل الكتب الممكنة. ربما كان ما كتبه ضرباً من الفانتازيا الفلسفية في القرن العشرين، لكنه اليوم صار ملموساً: الذكاء الاصطناعي قادر على توليد آلاف النصوص في ثوانٍ، وكأنه يستحضر تلك المكتبة اللامتناهية التي حلم بها بورخيس.

لكنني، ككاتب، لا أريد أن أترك نفسي أسيراً للكمّ وحده. الأدب ليس كثرة النصوص، بل فرادتُها. ليس القدرة على توليد ملايين الجمل، بل القدرة على خلق جملة واحدة تبقى في الذاكرة مثل ومضة برق. وهنا يبدأ صراعي الداخلي: كيف أتعامل مع آلة تستطيع أن تكتب بلا كلل، وأنا الذي تعبتُ عمراً من أجل أن أصوغ جملة صافية كدمعة؟

من الدهشة إلى القلق

أول مرة جربتُ فيها برنامجاً يعتمد على الذكاء الاصطناعي للكتابة، أحسست بدهشة عارمة. كان الأمر أشبه بجلوسي أمام مرآة سحرية تقرأ أفكاري وتعيد صياغتها بلغة جديدة. طلبتُ من الأداة أن تكتب لي قصيدة عن البحر، فجاءني نصّ فيه صور ومجازات لم تكن تخطر على بالي. أحسست لوهلة أنني أمام شاعر خفي يسكن في أعماق الآلة. لكن سرعان ما حلّ القلق محلّ الدهشة: ماذا لو استغنى القارئ عني واكتفى بهذه الأصوات الرقمية؟ ماذا لو صار الذكاء الاصطناعي هو الكاتب المقبل، وأنا مجرد ظلّ عابر في تاريخ الأدب؟

ذلك القلق ليس شخصياً فقط، بل هو قلق إنساني عام. لقد علّمنا الأدب، عبر قرون، أن الكلمة هي التعبير الأسمى عن ذات الإنسان وعن حريته. فهل ستظل هذه الحرية محفوظة إذا صارت الكلمات من إنتاج الخوارزميات؟ أم أننا سنجد أنفسنا نعيش في عالم حيث تتساوى القصيدة مع الإعلان التجاري، لأن كلاهما خرج من رحم الخوارزمية؟

الأدب والآلة: علاقة جدلية

لكنني سرعان ما اكتشفت أن النظر إلى الذكاء الاصطناعي كخصمٍ ليس سوى نصف الحقيقة. إنما هو في الآن ذاته فرصة غير مسبوقة لإعادة التفكير في الأدب. لقد ألهمتني هذه التكنولوجيا أن أرى الكتابة كفعل جماعي لا فردي. كل كاتب يحمل داخله أصواتاً لكتّاب سبقوه: دانتي في ت.س. إليوت، المتنبي في درويش، شكسبير في بورخيس. أليس الذكاء الاصطناعي سوى تجسيد لهذه الحقيقة، إذ يجمع في بنيته ملايين النصوص التي تغذت عليها خوارزمياته؟

حين أكتب بمساعدة الذكاء الاصطناعي، لا أشعر أنني أستسلم له، بل أنني أدخل في جدل معه. أرفض جملةً يقترحها، أعدل أخرى، أقبل ثالثة، ثم أضيف من ذاتي ما يربط النص بروحي وتجربتي. إنها أشبه برقصة بين إنسان وآلة: خطوة مني، خطوة منه، لكن النغمة في النهاية يحددها قلبي أنا.

الذكاء الاصطناعي كمرآة للخيال

ثمة أمر آخر اكتشفته: الذكاء الاصطناعي ليس مجرد منتِج للنصوص، بل هو مرآة تكشف لي ما لم أكن أراه في داخلي. حين أطلب منه أن يكتب حكاية عن الغربة، فإنه يعيد إليّ صوراً شتى عن الغربة التي عرفها آخرون، في أزمنة وأمكنة مختلفة. وهكذا، يذكّرني بأن تجربتي الفردية ليست معزولة، بل هي جزء من تجربة إنسانية واسعة.

وهنا يتجلى البعد الفلسفي العميق: الأدب كان دائماً محاولة لتوسيع الخيال الإنساني، والذكاء الاصطناعي لا يلغي هذا الدور، بل يضاعفه. إنه يفتح لي أبواباً لمكتبات لم أزرها، ولثقافات لم أعشها، ولأصوات لم أسمعها. لكنه، في الوقت ذاته، يضعني أمام تحدٍ: أن أجد نبرتي الخاصة وسط هذا الصخب الهائل.

الكاتب بين الماضي والمستقبل

أحياناً، وأنا أفكر في هذه التحولات، أستحضر صورة الكتّاب القدامى وهم يواجهون الطباعة لأول مرة. كم من شاعر أو ناسخ شعر أن مهنته ستنتهي حين صار الكتاب يُطبع بالآلاف؟ لكن الطباعة لم تُلغ الأدب، بل زادته انتشاراً. فهل يكون الذكاء الاصطناعي اليوم أشبه بتلك الطباعة؟ هل نحن أمام تهديد أم أمام فرصة لتجديد الأدب ونقله إلى أفق أوسع؟

أنا أميل إلى الاعتقاد أننا أمام الاثنين معاً. الذكاء الاصطناعي يهدد الأدب إذا استُعمل كبديل رخيص عن الخيال البشري. لكنه يغنيه إذا استُعمل كأداة تفتح أمام الكاتب إمكانات جديدة. الأمر، في النهاية، يتوقف على كيفية تعاملنا معه.

الكتابة كفعل مقاومة

أجد نفسي في النهاية أعود إلى يقين قديم: الأدب، مهما تغيرت وسائطه، يظل فعل مقاومة. مقاومة للنسيان، للزيف، للسطحية. الذكاء الاصطناعي قد يكتب آلاف النصوص، لكنه لن يعرف ما يعنيه أن يسهر شاعر على بيت شعري واحد، أو أن يبكي كاتب وهو يكتب مشهد موت بطله. هذه التجارب الإنسانية العميقة لا يمكن برمجتها، لأنها ليست بيانات، بل جراح حيّة.

ولهذا، أكتب هذا الكتاب. لا لأدافع عن الأدب من خطرٍ متخيَّل، ولا لأمنح الآلة سلطةً لا تستحقها، بل لأقول إن العلاقة بين الأدب والذكاء الاصطناعي هي علاقة معقدة، متناقضة، مثيرة، وتستحق أن نفكر فيها بجدية.

نحو أفق جديد

حين أنظر إلى الأفق، أرى أن الأدب لن يموت. ربما سيتغير شكله، وسيتوسع ميدانه ليشمل الروايات التفاعلية، القصائد الرقمية، النصوص المتعددة الوسائط. وربما سيظهر جيل جديد من الكتّاب يتقنون الرقص مع الخوارزميات كما يتقنون اللعب بالكلمات. لكن جوهر الأدب سيظل هو ذاته: البحث عن معنى في قلب الفوضى، وإعطاء شكل للزمن الذي نعيشه.

إنني أكتب هذه المقدمة كنوع من العهد مع نفسي ومع القارئ: أن أدخل هذا الحوار مع الذكاء الاصطناعي بعين الناقد لا بعين المبهور، وبقلب الكاتب لا بعقل المهندس فقط. وأن أبحث في هذه الصفحات عن مساحة جديدة، لا تُقصي الأدب ولا تُقدّس الآلة، بل تحاول أن ترى كيف يمكن للاثنين أن يتجاورا دون أن يفقد أحدهما روحه.

خاتمة

في النهاية، هذه ليست سوى بداية الرحلة. الكتاب الذي بين يديك ليس دراسة تقنية بحتة، ولا هو دفاع أعمى عن الأدب ضد الآلة. إنه نص شخصي، تحليلي، وجداني، كتبه إنسان عاش عمره مع الكلمة، وها هو اليوم يجرّب أن يفتح باباً نحو المستقبل.

لقد تعلّمت من الأدب أن السؤال أهم من الجواب، ومن الفلسفة أن القلق علامة حياة، ومن التكنولوجيا أن ما نظنه مستحيلاً اليوم قد يصير غداً واقعاً مألوفاً. وبين هذه الثلاثة – الأدب والفلسفة والتكنولوجيا – تتشكل هذه الصفحات.

أكتبها بضمير المتكلم، لأنني أؤمن أن كل علاقة بالأدب تبدأ من تجربة فردية، من قلب يخفق، من عين ترى، من يد تكتب. وأتركها مفتوحة لك أيها القارئ، لأن الأدب في النهاية ليس ما يكتبه الكاتب، بل ما يعيشه القارئ حين يقرأ.

رابط النسخة الإلكترونية






0 التعليقات: