1) مدخلٌ إلى زمنٍ ثقافيٍّ يتشكّل
ليس الخريف فصلًا لذبول الألوان في المغرب؛ إنّه زمن ارتخاء الضوء كي يرى الناسُ تفاصيل ما يُبنى على مهل. في هذا الخريف بالذات، تبدو الثقافة المغربية وقد انتقلت من مجرّد تواتر الفعاليات إلى تشكّل “نظامٍ إيكولوجي” تتجاور فيه السياسات العمومية مع
المبادرات المدنية، وتتصافح فيه الذاكرةُ الشعبية مع التجريب الفني، ويجد فيه الفنانُ والباحث والفاعل الجمعوي مساحاتٍ أرحب للعمل والتأثير. هذا النظام لا يُختزل في تكديس التواريخ، بل في تراكُم الدلالات: كيف تتحوّل المدينة إلى نصٍّ مفتوح؟ كيف تُترجم برامج الدعم إلى اقتصادٍ صغير للمعنى؟ وكيف تُصان الهويات وهي تعلّم نفسها لغاتٍ متعددة؟2) دعمٌ يُعيد ترتيب العلاقة بين الفنّ والسوق والجمهور
حين أعلنت وزارة الشباب والثقافة والتواصل فتح باب الترشيح لدعم الموسيقى والأغنية والفنون الاستعراضية في الدورة الثانية لسنة 2025، بدا الأمر كخبرٍ إداري اعتيادي للوهلة الأولى. لكنه، في الجوهر، يرسّخ منطقًا يحتاجه الحقل الثقافي: الانتقال من “الحدث” إلى “المنظومة”. فالدعم، كما ورد في البلاغ، لا ينحصر في الإنتاج فحسب، بل يشمل الترويج والتوزيع والمشاركة الدولية والإقامات الفنية؛ أي إنه يلتفت إلى سلسلة القيمة كاملةً، من الفكرة إلى الجمهور، ومن الاستوديو إلى المنصّة، ومن المحلي إلى العابر للحدود. بهذا المعنى، يصبح الدعمُ سياسةَ ثقافةٍ لا صدقةَ موسم.
وليس الدعم العمومي وحده ما يحرّك عجلة القطاع؛ فثمّة مصادر مكمّلة ومتقاطعة أبرزها المنح العربية والدولية مثل “آفاق”، التي استفادت منها أعمال مغربية حديثًا. هذه التدفقات التمويلية تتيح مساحاتٍ للتجريب الحرّ، وتفرض في المقابل احترافيةً أعلى في التصوّر والتسيير والتقييم. وبين رافعة الدولة ورافعات الشركاء العرب والدوليين، يُعاد تركيب مشهد الثقافة كمجالٍ للعمل الإبداعي القابل للحياة اقتصاديًا، لا كترفٍ جميلٍ مؤجّل.
3) المهرجانات: حين يصيرُ المكانُ شريكًا في الكتابة
من تطوان إلى أصيلة، ومن إفران إلى الرباط وسلا، نرى كيف تتّخذ المهرجانات المغربية أشكالًا متعدّدة تُعيد تعريف العلاقة بين الفنون والمدينة. المهرجان الدولي للفن التشكيلي بتطوان، وهو يستقبل مشاركين من المغرب والعالم العربي والمتوسط، يُضاعف من قيمة “الدبلوماسية الثقافية” للمدينة — فالفنّ هنا ليس معرض لوحات فحسب، بل منصة لقاءٍ نقدي وتواصلي يوسّع شبكات الفاعلين ويخلق دوراتٍ جديدة للرصيد الرمزي والسياحي.
أمّا أصيلة، التي وصفتها التقارير الأخيرة بـ“قبلة الفنون”، فتستعيد موسمها الثقافي/التشكيلي بوصفه كتابةً ثانيةً في جغرافيا المكان: ورشٌ، معارض، محاضرات، وذاكرةٌ تتجدّد كل صيفٍ وخريف. لقد أثبتت أصيلة — منذ تأسيس موسمها قبل عقود — أنّ المدينة الصغيرة يمكن أن تشتغل كأكاديمية مفتوحة، يخرج منها الفنّ إلى الأزقة وتدخل إليها الأسئلة الكبرى للفكر والهوية. هكذا يتحوّل الموسم إلى “مختبر حضري” للاقتراب من الناس، يدرب الذائقة البصرية، ويعيد الاعتبار للمشترك الجمالي. مغرس
وعلى صهوة التراث، تصعد التبوريدةُ من دوائرها التقليدية إلى واجهةٍ مهرجانية تخلق اقتصادًا محليًا مصغّرًا: نقلٌ وإيواءٌ وأزياءٌ وصناعاتٌ تقليدية ومهاراتٌ فروسية. مهرجان الأرز بإفران نموذجٌ على كيف يمكن للثقافة الشعبية — بما فيها “ثقافة البارود والفرس” — أن تُدوَّل دلالاتها دون أن تفقد أصالتها، لتجمع بين المتعة البصرية وحفظ المهارات اللامادية وتعزيز جاذبية المكان. مغرس
4) هويةٌ تتكلم لغاتِها: اليوم الدولي للشعوب الأصلية بوابةٌ لنقاشٍ عمومي
في أغسطس، رفعت فعاليات أمازيغية صوتها مُجدِّدة الدعوة إلى إنصاف الهوية وتصحيح السرديات التاريخية بمناسبة “اليوم الدولي للشعوب الأصلية”. ليس الحدث مجرّد وقفة رمزية؛ إنّه تذكير بأن سياسة الثقافة لا تنفصل عن سياسة الاعتراف. فاللغةُ، بما تحمله من شعرٍ وذاكرة وطقوس، ليست وسيطًا للتعبير وحسب، بل حاضنةُ حقوقٍ وتطلّعات. وحين تتصالح السياسات العمومية مع لغات البلد كلها، يصبح بإمكان المدرسة والإعلام والمسرح والمتاحف بناء “اقتصاد مواطَنة” تتوزّع فيه الكرامة الرمزية على الجميع. هكذا يتحوّل العيد الأممي إلى نقطة ارتكازٍ لأجندة محلية تراهن على التعدد.
5) الثقافة والتنمية المستدامة: من “الناظور المستدام” إلى فنون الشارع
في الناظور، تُخاض تجربة وصل الثقافة بالتنمية المستدامة عبر تظاهرة تجمع الاستثمار والمدينة والبيئة، بما يعنيه ذلك من ربط الحاضر الثقافي بالبنيات التحتية للمستقبل. وفي سلا، ينتظر أن يعيد مهرجان فنّ الشارع تعريف واجهات البنايات ومسارات المواطنين اليومية — جدارياتٌ تُحاور التاريخ المحلي، وورشاتٌ تُعلّم الأجيال تقنيات التعبير في الفضاء العام. كلا المثالين يذكّر بأن الثقافة حين تغادر القاعات نحو الشارع، تكتسب “قيمة استعمال” جديدة: تُداوي قبحًا بصريًا، تفتح أعينًا نائمة، وتعلّم الناس حوارًا غير نخبوي مع الألوان والحروف.
6) المدينة كمنصّة: كيف تُصاغ “جغرافيا المعنى”؟
إنّ ما يميّز خريف 2025 هو التصاعد الملحوظ لدور المدينة منصةً لإنتاج الثقافة وتداولها: الحدائق تتحوّل إلى فضاءات عرض، الساحات إلى مسارح، الأزقة إلى متاحف مفتوحة. هنا يصبح على الفاعل الثقافي أن يُجيد “التصميم الحضري للحدث”: إضاءة، حركة، مسار الجمهور، رعاية التجربة بكاملها، من تذكرة الدخول إلى آخر صورة يلتقطها الزائر. وحين نربط ذلك بالدعم المؤسّساتي وبالشراكات الدولية، نقترب من صياغة “جغرافيا معنى” يتقاطع فيها الجمالي بالاجتماعي والاقتصادي.
7) اقتصاد الثقافة: أسئلة الاستدامة والحوكمة
يبقى السؤال المركزي: كيف نستديم هذه الدينامية؟ الجواب يمرّ عبر ثلاثة مسارات متكاملة:
-
حوكمة التمويل: شفافية المعايير، وضوح النتائج المتوقّعة، تقييم ما بعد الفعالية، وإتاحة البيانات للباحثين.
-
تنويع الموارد: تشجيع الرعايات الخاصة والمسؤولية الاجتماعية للشركات، وتعبئة صناديق عربية ودولية، دون الارتهان لشروط تُفقر الهوية.
-
التكوين والبحث: ربط الجامعات بمعاهد الفن والإدارة الثقافية، وإدماج المهارات الثقافية والفنية في التعليم العالي لتعزيز الاحترافية وخلق وظائف جديدة في إدارة المشاريع والإنتاج والترويج والوساطة الثقافية. (توجهات تدريس المهارات الثقافية في الجامعة ظهرت في مواسم 2024–2025 وتستحق التعميق والتعميم).
8) نحو سياسة ثقافية تُشبهنا
إذا كان هذا الخريف قد قدّم لنا لوحةً مُفعمةً بالألوان، فإن التحدّي هو أن نسأل: هل تُشبهنا سياسةُ الثقافة؟ أي: هل تنعكس في الأحياء الهامشية كما تنعكس في المراكز؟ هل تصل إلى المدارس كما تصل إلى دور العرض؟ وهل تُتيح لكل اللغات والذاكرات أن تتحدّث بلا خوف؟ الإجابة تمرّ عبر مشاريع ملموسة: تعميم بيوت الثقافة المجهزة رقميًا، صناديق محلية مصغّرة لدعم المبادرات المجتمعية، مسارات تعليمية تُدخل “الكفاية الجمالية” إلى الصفوف، منصّات رقمية لحفظ التراث اللامادي وتيسير الوصول إليه، وشبكات تنسيق بين الجماعات الترابية والوزارة والقطاع الخاص.
9) خاتمة: كتابةٌ بالمشي … من الفضاء العام إلى الفضاء العالمي
لعلّ الدرس الأهمّ أن الثقافة تُكتب بالمشي: نتمشّى في أصيلة فنقرأ جدارًا، ونمشي في تطوان فنصغي إلى نقدٍ يتبادل وجهات النظر، ونسير في إفران فنرى التبوريدة وهي تُنقّط إيقاع الفروسية على بساطٍ من عشب الجبل. وفي كل خطوة، نضع حجراً في طريق الاستدامة الثقافية. إنّ مغرب الثقافة في خريف 2025 ليس سردية حدثٍ عابر، بل مشروع مجتمعٍ يربّي حواسّه على المعنى، ويصنع من الفنّ والهوية والمدينة مثلثًا يضيء الوطن من زواياه كلها.
— عبده حقي







0 التعليقات:
إرسال تعليق