لم يكن خافياً على أحد أن حرية التعبير في الجزائر تواجه حدوداً ضيقة، وأن توجيه نقد إلى رموز الدولة العليا قد يحمل عواقب وخيمة. اعتدنا أن تُعتبر بعض المناصب — على رأسها رئاسة الجمهورية وقيادة المؤسسة العسكرية — محاطةً بدرع يُحظر تجاوزه بالكلام أو الانتقاد، بل إن مجرد المساس بسمعة حامل هذه المناصب قد يُستوَجَب عليه التتبّع القضائي والعقوبة. ومع ذلك، بدا أن المخاوف تقتصر لدى كثيرين على ذلك النطاق الضيّق من "القداسة الرسمية"؛ إلى أن اكتشفنا أن دائرة الحصانة قد توسّعت لتطال وجوهاً لم تكن تُعدّ في السابق من عِماد السلطة العليا.
ما حصل أخيراً مع شخصية مدنية مثقفة في الستينات من عمرها يطرح أسئلة خطيرة
حول حدود النقاش المشروع: امرأة عمرها خمسةً وستون عاماً، كاتبة وناشرة ورفيقة صحفي
معروف، وُجهت إليها تهمة بعد إبداء رأي على منصة اجتماعية في شأن سيدة تشغل مواقع مؤثرة
في مؤسّساتٍ مدنية وإنسانية. هذا الحدث لا يختصر مجرد حالة فردية؛ بل يكشف نمطاً يشهد
على تحويل السجال العام إلى ساحة يعاقب فيها الناقد بغضّ النظر عن عمره أو مكانته أو
نواياه.
ثمة عناصرَ في الواقعة تثير الاستغراب: الأولى، أن موضوع النقد لم يكن موجّهاً
إلى رئيس دولة ولا إلى قائدٍ عسكري؛ بل طاول مسوؤلة في مؤسسة إنسانية واجتماعية يعرفها
الجمهور باعتبارها من مؤسسات المجتمع المدني. الثانية، أن مضمون التعليق (حسب السرد
المتداول) شكّك في كفاءة صاحبة المنصب واستياء الجمهور من قربها من دوائر القرار، وهو
أمر يندرج ضمن حرية التعبير والمساءلة العامة، لا داخل جرائم الجدال السياسي العنيف.
الثالثة، أن استجابة أجهزة الضبط كانت سريعة وحاسمة إلى حدّ السجن والحرمان من حرّية
مؤقتة، وهو ما يضع علامة استفهام على تناسب العقوبة مع الفعل.
ما يثير المزيد من التساؤلات هو الدور الذي تؤدّيه بعض الشخصيات في تحويل المشهد:
هناك من يكتسب نفوذاً سريعاً عبر قربه من دوائر السلطة أو بفضل صعوده الإعلامي أو الاجتماعي،
حتى يصبح النقد الموجّه إليه بمثابة تهديد للمسار العام؛ فتُستدعى أذرعُ القوّة أو
تفعّل الآليات القضائية لحماية هذا النفوذ. وفي هذا السياق، تبدو المؤسسات الإنسانية
أو الجمعيات المدنية عرضة للاستثمار السياسي، ما يقوّض دورها المجتمعي ويجعلها هدفاً
لحماية رسمية تحولها إلى ما يشبه رموزاً لا تُنتقد.
لا يخفى علينا أن المؤسسات الإنسانية لها وزنها واعتبارها، وأن العمل فيها يحتاج
إلى حماية تضمن استقلاليتها وفعالية تدخلاتها. لكن من غير المقبول أن تتحول الحماية
إلى وسيلة لسحق النقد المشروع أو تكميم الأفواه. النقد الموضوعي، القائم على معطيات
وأدلة، هو جزء من رقابة المجتمع على من يتولون مهاماً عامة، لا أداة لإدانة المخالفين
سياسياً أو شخصياً. إغلاق باب النقاش وتصعيد المساءلة القضائية ضدّ أصوات معارضة أو
متردّدة يحيل المجتمع إلى حالة من الخفاء والامتثال القسري، ويؤثر سلباً على سمعة الدولة
نفسها.
ثمّ إنّ التردّي في مستوى المعالجة القضائية لمسائل الرأي يضرب بصورة مباشرة
مصداقية المنظومة القضائية وحيادها. حين تُستدعَى قنوات العدالة لمعاقبة مواقعٍ من
التعبير الخفيف أو للتعاطي مع خلافٍ مدني عبر آليات شديدة العنف، فإنّ ذلك يترك انطباعاً
بأن النظام القضائي يُستعمل أداةً لتصفية مواقف لا لحماية القانون وصون الحقوق.
أمام هذا المسار، لا بدّ من موقف واضح: أولاً، إعادة ترسيم الحدود بين النقد
المشروع والتجريح الشخصي — مع حماية فعّالة للحقّ في النقد باعتباره مكوناً أساسياً
من الحياة الديمقراطية؛ ثانياً، ضمان أن تكون المساءلة القضائية استثنائية ومتناسبة،
لا آليةً تلقائيةً لمعاقبة من يقول رأيه على منصة افتراضية؛ ثالثاً، استعادة دور مؤسسات
المجتمع المدني باعتبارها منابر للحوار والمساءلة، لا رئاسياتٍ رمزية تُعفَى من التدقيق
العام.
إن من يكسبون نفوذاً يجب أن يكونوا أول من يخضع للمساءلة، لا أن يستفيدوا من
حصانةٍ صنعها لهم القرب من مراكز القرار أو المظهر العام. والمجتمع الذي يخشى من نقاشٍ
هادئٍ أمره عسير، لأنّ تأمين المساحة العامة للحوار هو المقياس الحقيقي لصحّة الحياة
العامة وحرّية المواطنين. وفي المقابل، فإنّ تحويل التعليق أو الرأي إلى سببٍ للاعتقال
يُشبِه بكاءً على حريةٍ غير موجودة؛ إذ لا نحتاج إلى قوانينٍ جديدة لتكميم الأصوات،
بل إلى إرادة تحمي الحقّ في النقد وتمنع استعمال القوانين كأداة للانتقام.
في ختام هذا العرض: إن معالجة هذه القضية بمستوى من العقل والعدالة والإنصاف
ستكون مؤشراً حاسماً على مدى استعداد الدولة والمجتمع للانتقال من ثقافة الخوف إلى
ثقافة المساءلة والمسؤولية. وحتى ذلك الحين، ستظلّ أمثولةُ امرأةٍ مسنّةٍ تُسجن بسبب
رأيٍ على فيسبوك جرس إنذارٍ خطيراً على مصير الحريات العامة في وطنٍ يطمح إلى أن يحفظ
كرامته وحقوق مواطنيه.








0 التعليقات:
إرسال تعليق