يشهد المشهد الثقافي العربي مع نهاية أكتوبر 2025 حراكاً لافتاً من الإصدارات التي تتنوّع بين الشعر والنقد والرواية والفكر والموسيقى والبحث الأكاديمي. وإذا كان لكل كتاب من هذه الكتب صوته الخاص، فإن مجموعها يشكّل معاً لوحة بانورامية لقلق الإنسان العربي في زمن التحولات، من تمرّد الشاعر على اللغة والوطن، إلى مساءلة المنطق والكينونة، مروراً بقرى الأساطير والعود الذي يبوح بأحلامه الخشبية.
حنان فرفور وتمرّد القصيدة: الشعر كشرط للحرية
في كتابها الجديد «مهدي منصور متمرّداً» الصادر عن دار "كاف" في بيروت، تفتح الشاعرة والباحثة اللبنانية حنان فرفور حواراً عميقاً مع مفهوم التمرّد بوصفه جوهر الشعرية العربية الحديثة. فرفور لا تكتفي بدراسة ديوان مهدي منصور «أخاف الله والحب والوطن»، بل تُعيد النظر في معنى الخوف ذاته، وكيف يتحوّل الخوف من الله والوطن إلى فعل تمرّد داخلي يعيد صياغة الذات الشاعرة.
تذهب الكاتبة إلى أن الشعر لا يولد من الطمأنينة، بل من القلق والمواجهة. فالتمرّد، كما تراه، ليس مجرد عصيانٍ سياسي أو اجتماعي، بل تجربة وجودية تنبع من رفض المألوف في اللغة وفي الفكر وفي الإحساس. ومن خلال تحليلها لديوان منصور، تُبرز فرفور صراع الشاعر بين المقدّس والمدنّس، بين الوطن كمأوى والوطن كقيد، لتجعل من التمرّد لغة خلاصٍ من السكون، ونافذة نحو شعرٍ أكثر حرية وصدقاً.
عروة المقداد و«ليلة السكاكين»: أسطورة القرية التي تقتل بطلها
أما الكاتب والمخرج السوري عروة المقداد، فيقدّم من خلال نوفيلاه «ليلة السكاكين» الصادرة عن دار "نوفل/هاشيت أنطوان" عملاً سردياً مكثّفاً يتناول المأساة الجماعية من خلال حكاية قرية صغيرة صنعت أسطورتها بيدها، ثم انقضّت عليها لتغتالها. إنها قصة البطل الذي يصبح ضحية، والمجتمع الذي يقدّس ثم يُقصي.
القرية هنا ليست مكاناً جغرافياً، بل استعارة للوجدان العربي الممزّق بين الحنين إلى الأسطورة والخوف من الحقيقة. المقداد ينسج نصاً حافلاً بالرموز والدلالات، يعرّي فيه آليات صناعة الزعيم، وموت البطولة حين تتحوّل الذاكرة إلى سكين. لغته مشحونة بالتصوير السينمائي، تعكس خلفيته الإخراجية، وتحوّل القرية إلى شاشةٍ كبرى تُعرض عليها مآسي الإنسان العربي في مواجهة أسطورته الخاصة.
خضير ميري و«أحلام عازف الخشب»: موسيقى تعزف ذاكرة العالم
من الرواية إلى الموسيقى، يجيء كتاب الراحل خضير ميري «أحلام عازف الخشب: رحلة جمالية مع نصير شمة وموسيقاه» ليُعيد الاعتبار للعلاقة بين الفن والحياة. الكتاب، الصادر ضمن سلسلة "فنون" عن وزارة الثقافة العراقية، يتتبّع سيرة العازف نصير شمة، لا بوصفه موسيقياً فحسب، بل كفيلسوف للعود، وحارسٍ لذاكرة العراق.
يكتب ميري بلغة شعرية عن العود ككائن حيّ، يولد من الخشب ويعود إليه، في دورةٍ جمالية تعانق الخلود. يبرز في الكتاب تأملٌ عميق في الجمال كقيمة مقاومة: فالنغمة، في نظر المؤلف، فعل خلاص من العنف، والعود سفينة تُبحر في أنهار الحنين والدمع. إنه عمل نقدي-سيري يزاوج بين التوثيق والخيال، بين التحليل الجمالي والإيمان بأن الموسيقى تظل أصدق من الكلمات.
ماجد كيالي و«مدونة ليست شخصية»: الذاكرة بين فلسطين وسوريا
في كتابه «مدونة ليست شخصية: من دفاتر الزمن الفلسطيني-السوري» الصادر عن دار "كنعان" بدمشق، يقدّم الكاتب الفلسطيني ماجد كيالي نصاً هجينا بين السيرة والتاريخ واليوميات. إنه ليس سرداً ذاتياً بالمعنى التقليدي، بل شهادة مثقف عاش تداخل الأزمنة بين المخيم والمنفى، بين الفقد والكتابة.
المدونة تكشف عن لحظاتٍ من الحنين والخذلان والنجاة في آن واحد. من بيروت إلى إسطنبول، ومن عمّان إلى دمشق، يرسم كيالي خريطة الاغتراب العربي، حيث تتحوّل السياسة إلى قدرٍ شخصي، والكتابة إلى وسيلة للبقاء. بهذا المعنى، يصبح النص وثيقة وجدانية لزمنٍ ضائع بين الهويتين الفلسطينية والسورية، لكنه أيضاً دعوة لاستعادة الذات عبر الذاكرة والاعتراف.
مجلة «أفريقيا»: مقاربة جزائرية لقارة التحوّلات
على الصعيد البحثي والأكاديمي، شهدت الجزائر صدور العدد الأول من الدورية الجديدة «أفريقيا» عن مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية. المجلة نصف السنوية تُعنى بدراسة القارة الأفريقية من زوايا متعددة: التاريخ، الفلسفة، الأدب، علم الاجتماع، والسياسة.
يضم العدد الأول مساهمات لباحثين جزائريين وأفارقة، تناولت موضوعات مثل الهجرة، والصحة، والهوية، والدبلوماسية الأفريقية. اللافت في هذا المشروع أنه يسعى إلى إعادة وصل المغرب العربي بجذوره الأفريقية، وفتح حوارٍ علمي يواجه النظرة الأوروبية التقليدية للقارة. إنها مبادرة علمية تحمل في جوهرها وعياً ثقافياً متقدّماً بضرورة بناء معرفة أفريقية من الداخل.
صادق إنعام الخواجا و«رسالة في اللغة والمنطق»: نحو كينونة لغوية جديدة
أخيراً، يأتي الكتاب الفلسفي «رسالة في اللغة والمنطق» للباحث الأردني صادق إنعام الخواجا، الصادر عن "الآن ناشرون وموزعون"، ليعيد التفكير في علاقة اللغة بالفكر. يطرح الخواجا أطروحة جريئة مفادها أن اللغة ليست أداة للتواصل، بل هي الكينونة ذاتها؛ فالفكر لا يوجد خارج اللغة، والمنطق الحقيقي هو منطقها الداخلي.
ينتقد المؤلف المنطق الصوري الأرسطي، ويقترح بديلاً يقوم على “المنطق الحيّ”، أي منطق التجربة الإنسانية في النطق والمعنى. بذلك، يلتقي الخواجا مع تيارات فلسفية حديثة مثل الهرمنيوطيقا وظاهراتية اللغة، في مسعى لإعادة تعريف العقل العربي المعاصر من خلال لغته، لا من خلال مقولات وافدة عليه.
تقاطعات الإبداع: من التمرّد إلى الكينونة
عند النظر في هذه الإصدارات مجتمعة، يبرز خيط فكريّ خفيّ يربطها: الرغبة في إعادة تعريف الإنسان العربي من خلال أدواته الثقافية. فرفور تتأمل التمرّد كشرط للشعر، والمقداد يحاكم الأسطورة بوصفها سيفاً ذا حدّين، وميري يرى في الموسيقى خلاصاً من الحرب، وكيالي يدوّن الذاكرة كفعل مقاومة، بينما الخواجا يفتّش في اللغة عن منطق الوجود ذاته، والمجلة الجزائرية تنفتح على أفقٍ قاريّ جديد يعيد للعرب موقعهم الأفريقي.
كلّ هذه الأصوات ــ على اختلاف أجناسها ــ تلتقي عند لحظة وعي جديدة بالذات، لحظةٍ لا تُعرّف الثقافة باعتبارها ترفاً، بل كضرورة وجودية في زمن الاضطراب. إنها خارطة فكرية تعكس روح خريفٍ عربيّ خصب، يثمر كتباً تحاور المستقبل، لا الماضي.
توقيع: عبده حقي








 
0 التعليقات:
إرسال تعليق