تسارعت الأحداث في الآونة الأخيرة بشكل غير مسبوق حول قضية الصحراء المغربية والنزاع المزمن بين الجزائر والمغرب. فمنذ الإعلان المفاجئ يوم 19 أكتوبر عن وساطة أمريكية يقودها مبعوث خاص من إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، دخلت المنطقة في سباق دبلوماسي مكثّف قد يُفضي، حسب التقديرات، إلى توقيع اتفاق سلام خلال ستين يوماً فقط.
التحرك الأمريكي، الذي تم الإعلان عنه بمشاركة ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر، يُعيد إلى الأذهان اتفاقات أبراهام لعام 2020، ويؤشر إلى عودة واشنطن القوية إلى مسرح شمال إفريقيا بعد سنوات من الغياب النسبي، في وقت تشتد فيه المنافسة الجيوسياسية بين الصين وروسيا وتركيا.
لم يكن هذا التحرك مجرد مبادرة رمزية، بل يعكس رغبة واضحة لدى واشنطن في نزع فتيل التوتر الذي بدأ يهدد أمن جنوب المتوسط. فبالنسبة للإدارة الأمريكية، لم تعد الصحراء “قضية محلية” أو “صراعاً قبلياً”، بل ملفاً يتقاطع مع مصالح حيوية للأمن الأوروبي والأطلسي، خصوصاً بعد أن تحولت الحدود الجزائرية–المغربية إلى واحدة من أكثر الجبهات توتراً في القارة.
تُدرك واشنطن أن استمرار العداء بين الجزائر والمغرب قد يفتح الباب أمام سباق تسلح خطير، ويمنح موسكو وأنقرة وبكين موطئ قدم جديداً في فضاء تعتبره الولايات المتحدة تاريخياً ضمن نطاق نفوذها الاستراتيجي.
التحليل المقارن بين موقفي الرئيسين الجزائريين السابق عبد العزيز بوتفليقة والحالي عبد المجيد تبون يكشف بوضوح مساراً متناقضاً.
ففي عهد بوتفليقة، كان التعامل مع قضية الصحراء يتم ببرودة الأعصاب وضمن ضوابط الخطاب الدبلوماسي، رغم تمسك الجزائر بمبدأ “تقرير المصير”. لم يكن الرجل يهاجم المغرب أو مؤسساته، بل كان يستشهد بنماذج دولية دفاعاً عن أطروحته، دون أن يُهين جاراً أو يُشعل حرباً إعلامية.
أما في عهد تبون، فقد تحوّل الخطاب الرسمي إلى منبر للاتهامات والخصومات، يُحمَّل فيه المغرب مسؤولية كل الأزمات: من التجسس إلى الحرائق، ومن الأزمات الاقتصادية إلى الهزائم الرياضية. وهكذا، تحولت القضية من ملف سياسي إلى عقيدة عدائية.
تُظهر الوقائع أن سياسة التصعيد الممنهج أدت إلى نتائج عكسية. فبعد أن كانت الجزائر تُقدَّم في المحافل الدولية كطرف “مدافع عن مبدأ”، أصبحت اليوم تُرى كـ"قوة معرقلة" تهدد استقرار المنطقة.
لقد أدى إغلاق الأجواء، وقطع العلاقات الدبلوماسية، وحملات الكراهية اليومية في الإعلام الرسمي، إلى خسارة الجزائر لرصيدها الدولي، بينما خرج المغرب بمكاسب سياسية واضحة: دعم أمريكي ثابت، وتأييد متزايد من دول الاتحاد الأوروبي وأفريقيا الغربية لمقترح الحكم الذاتي كحلٍّ واقعي ونهائي.
تؤكد واشنطن اليوم أن مقاربة “الضجيج القومي” لم تعد تقنع أحداً. فالعالم يتعامل مع النتائج لا مع الشعارات.
ومن الواضح أن أسلوب التشنج الجزائري لم يُضعف المغرب، بل عزّز صورته كدولة مسؤولة تحرص على الاستقرار وتطرح حلولاً سلمية.
حتى في الكواليس الروسية والصينية، لم تعد الأطروحة الجزائرية تجد حماساً يُذكر؛ الجميع بات يعتبر أن جوهر الأزمة ليس الصحراء، بل العلاقة المتأزمة بين بلدين جارين.
لقد تحوّل المشهد المغاربي إلى مرآة تعكس تحولات أعمق في ميزان القوى العالمي. فالولايات المتحدة لا تريد شمال إفريقيا جديدة تحترق، لأن اشتعالها يعني تهديد المتوسط بأكمله.
من هنا، تتعامل واشنطن بصرامة مع الملف، ساعيةً إلى فرض منطق “الواقعية السياسية” بدل “الخطاب الثوري”. ويبدو أن الأيام المقبلة ستحمل خريطة جديدة للمغرب العربي، حيث ستُحدد قدرة الجزائر على التكيّف ما إذا كانت ستظل لاعباً إقليمياً محترماً أم عبئاً على أمن الجوار.
في النهاية، القضية لم تعد تتعلق بالصحراء فحسب، بل بهوية المنطقة المغاربية كلها: هل ستختار منطق التعاون، أم تستمر في دوامة العداء؟
الولايات المتحدة دخلت على الخط، والعالم يترقب. أما الجزائر، فمدعوة إلى النظر في المرآة جيداً: هل تخدم خطاباتها صحراءً بعيدة، أم تحرق بيتها من الداخل؟
توقيع: عبده حقي
(مقال سياسي تحليلي، 2025)







0 التعليقات:
إرسال تعليق