منذ خروج ستيف ويتكوف، الموفد الخاص للرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط، وجاريد كوشنر، الذراع غير الرسمي في ملفات المنطقة، على شاشة برنامج “60 دقيقة” في شبكة “سي بي إس” لتأكيد عزم واشنطن دفع حلّ “نهائي” للنزاع الجزائري-المغربي خلال ستين يومًا وقبل نهاية عام 2025، تسودُ في الجزائر حالة ارتباك واضحة وإن لم تُترجم بعد إلى موقف رسمي. هذا الارتباك ظهر عبر تعبئة وجوه إعلامية ودبلوماسية سابقة ومعلّقين مقرّبين من السلطة لإطلاق روايات مضادّة والتقليل من شأن المبادرة الأمريكية أو تحوير وجهتها.
جوهر القلق في الجزائر ليس “تدخّل” الولايات المتحدة بحدّ ذاته، بل الإيحاء الأمريكي بجدولٍ زمنيٍّ ضاغط يهدف إلى إنهاء النزاع سريعًا. فالنظام الجزائري، كما يقول منتقدوه، لا يريد تسوية تُلزمُه بتغيير الوظيفة السياسية الداخلية للصراع مع المغرب؛ إذ تحوّل هذا الصراع، منذ 2021 على الأقل، إلى أداةٍ مركزية لتبرير رفع الإنفاق العسكري، وتشديد القبضة الأمنية، وصناعة عدوّ خارجي دائم يُستخدم في تأطير الرأي العام وحرف الانتباه عن الأزمات الاقتصادية والسياسية.
البيان التلفزيوني الأمريكي اتّخذ صيغة “سنُنجز” لا “سنُقترح”، بما يعني ممارسة ضغطٍ سياسي ودبلوماسي مباشر. لو اكتفت واشنطن بعبارة “نحن نتوسّط”، لكان ذلك مدعاة لزهو الخطاب الرسمي الجزائري الذي يقدّم نفسه فاعلًا إقليميًا لا يمكن تجاوزه. غير أنّ الرسالة الأمريكية جاءت “براغماتية”: ما يعنيها ليس مجاملة هذا النظام أو ذاك، بل ترتيب مشهدٍ آمن يحفظ المصالح الأمريكية ومصالح حلفائها، ويؤكّد دورها “حارسًا” للنظام الدولي.
في مواجهة هذا المسار، لجأت أصوات جزائرية قريبة من السلطة إلى طرح “مخرج” مألوف: المشكلة –بحسبها– ليست بين الجزائر والمغرب، بل بين المغرب وجبهة البوليساريو، وبالتالي فالمطلوب وساطة أمريكية-أممية بين الطرفين المباشرين لا أكثر. لكن هذا الطرح يصطدم بسجلّ السنوات الأخيرة: فمنذ أن رُفعت قضية الصحراء إلى مرتبة “قضية مقدّسة” في خطاب الرئيس عبد المجيد تبون، باتت الجزائر تتّخذ مواقف صدامية مع دولٍ عدّة لمجرّد اقترابها من رؤية الرباط، كما حدث مع إسبانيا عامي 2022-2024 حين غيّرت مدريد تموضعها لصالح مقترح الحكم الذاتي المغربي، ومع فرنسا منذ منتصف 2024 على خلفية مؤشرات باريسية مشابهة. هذا السلوك، بكل ما رافقه من استدعاء سفراء وتعليق اتفاقات وتضييق على مبادلات اقتصادية، يكفي –برأي منتقدي الجزائر– لإثبات أنّها طرفٌ أصيل في النزاع لا مجرد “داعمةٍ لمبدأ تقرير المصير”.
وإذا كان من الممكن في عهد عبد العزيز بوتفليقة الزعمُ بأنّ الجزائر تؤوي وتُمَوِّل وتُسَلِّح البوليساريو لكنها تُحيل الحلّ إلى الأمم المتحدة دون صدامات واسعة مع العواصم المخالفة، فإنّ النهج الراهن ذهب إلى أبعد من “التعاطف القانوني” مع أطروحة الاستقلال؛ إذ تحوّل إلى “هويّةٍ دبلوماسية” يومية: تغطيات مكثّفة في الإعلام الرسمي، استقبالٌ دوريّ لقيادات البوليساريو، واشتباكات سياسية مع دولٍ ترى في مقترح الحكم الذاتي صيغةً واقعية لتسوية الملف. لذلك يبدو دفعُ واشنطن نحو “إقفال” النزاع، ولو مبدئيًا، تهديدًا مباشرًا لبنية داخلية استثمرت في استمرار الخصومة مع المغرب.
على الضفة الأخرى، يدرك الأمريكيون –كما يُفهم من لهجة رسائلهم– أن رهان الاستفتاء أو خلق كيانٍ جديدٍ صغير السكان شديد الهشاشة الأمنية لا يحظى بتأييد واسع لدى القوى الكبرى، وأنّ “التسوية الواقعية” أقرب إلى منح الأقاليم الصحراوية صيغة حكمٍ ذاتي موسّع تحت السيادة المغربية، مع حزمة ضمانات تنموية وحقوقية وآليات متابعة دولية. وإذ تتحدّث واشنطن بلغة المهل، فهي تراهن على أدوات إقناع وضغط متدرّجة: من حجّة المصالح والفرص الاقتصادية، مرورًا بترتيبات أمن الحدود والطاقة، وصولًا –إن اقتضى– إلى أثمانٍ سياسية ودبلوماسية لمن يعرقل.
هنا تتبدّى معضلة الجزائر: إذا قَبِلتْ التسوية ستخسر “عدوّها المفيد” داخليًا، وإذا رفضت ستدخل في مواجهة مع قوّة عظمى تسعى لإغلاق ملفاتٍ مزمنة في شمال أفريقيا لصالح استقرارٍ أشمل. محاولة إعادة تدوير الخطاب بأنّ “الجزائر ليست طرفًا” تصطدم بأسئلة بسيطة: لماذا إذًا أُديرت أزماتٌ مع مدريد وباريس وأبوظبي بسبب الصحراء؟ لماذا تُخصَّص مساحاتٌ إعلامية وسياسية يومية للملف إذا كان “أمميًا” فحسب؟ ولماذا تُعامَلُ الدولُ التي تتبنّى مقاربة الرباط كخصومٍ استراتيجيين؟
في المقابل، تُظهِر التطورات أنّ ميزان الاعترافات الدولية يميل تدريجيًا لصالح مقترح الحكم الذاتي، ليس لأن “القانون الدولي” يُقصي خيار الاستقلال، بل لأنّ البراغماتية الجيوسياسية –بمزيجها من الأمن والطاقة والطرق التجارية– ترجّح الحلول التي تقلّل كلفة اللادولة وتمنح الاستقرار الأولوية. وبين القانون والواقع تختار العواصم الكبرى “الممكن” القابل للتنفيذ على “المثالي” المستحيل، وهي معادلةٌ تكرّرت في أزماتٍ عالمية كثيرة.
هكذا، يبدو أنّ السؤال المطروح على صانع القرار في الجزائر اليوم ليس: هل نحن طرفٌ أم لا؟ بل: أيّ كلفة سنقبل دفعها مقابل الإبقاء على النزاع بوظائفه الداخلية؟ وأيّ أثمان سنواجهها إن نحن رفضنا مسارًا أمريكيًا بات يطلب إجاباتٍ في غضون أسابيع؟ في الحالتين، قد لا يكون ممكنًا استمرار سياسة “الإيغال إلى الأمام” بلا مراجعة: فالمشهد الدولي تغيّر، وموازينُ الاعتراف والتحالف والفرص الاقتصادية تتحرّك، والوقت الذي كان يسمح بإدارة النزاع كأداة حكمٍ داخلية دون تبعات خارجية صار أضيق بكثير.
الخلاصة أنّ المبادرة الأمريكية –بما فيها من وساطة وضغط– تسعى إلى نقل الملف من دائرة “التعطيل المفيد داخليًا” إلى دائرة “الحلّ المُلزِم خارجيًا”. وإذا صحّت المهلة التي جرى التلويح بها على الشاشة الأمريكية، فإنّ العواصم المغاربية أمام أسابيعٍ حاسمة: إمّا الذهاب إلى تسويةٍ تُغلِق فصلًا مُكلفًا من التاريخ المشترك، أو مواجهة موجةٍ جديدة من العزلة والاحتكاك مع قوّةٍ دولية لا تُخفي أنّها تريد إنهاء هذا النزاع على طريقتها. وفي كلتا الحالتين، لن تعود الادعاءات القديمة قابلةً للتسويق: فالوقائع، لا الشعارات، هي التي ستُجيب أخيرًا عن سؤالٍ مؤجَّل منذ عقود.








0 التعليقات:
إرسال تعليق