بالأمس واليوم، يعيش العالم العربي، والمغرب على وجه الخصوص، حراكًا ثقافيًا وإعلاميًا وفنيًا غير مسبوق، يتقاطع فيه التراث مع الحداثة، والمكان المحلي مع الفضاء الرقمي العالمي. بين ما كان وما أصبح، تتشكل ملامح مشهد جديد يشمل الثقافة والفنون، الإعلام والتكنولوجيا، والأدب الرقمي، في المغرب وإفريقيا والعالم، في زمن باتت فيه الكلمة والصورة والفكرة تُولد وتُوزّع وتُستهلك على الشاشة.
أولًا: الثقافة والفنون بين الأمس واليوم
في المغرب، تستمر الفنون في لعب دورها كجسر بين الذاكرة والتجديد. فقد أعلنت وزارة الشباب والثقافة والتواصل عن برنامج دعم الفنون لعام 2025، الذي يشمل الموسيقى والمسرح والرقص والفنون البصرية، في خطوة تؤكد توجه الدولة إلى رقمنة منظومة الدعم الثقافي وجعلها أكثر شفافية وانفتاحًا على الشباب. المعارض الفنية المغربية باتت تحظى بانتشار عالمي، مثل أعمال الفنان العالمي حسن حجاج، الذي يعرض في كبرى المدن العالمية لوحات تمزج بين التقاليد الشعبية المغربية والإيقاعات البصرية الحديثة، في أسلوب فني يجعل من الهوية المحلية مادة عالمية الطابع.
أما في العالم العربي، فيتجه الحراك الثقافي نحو إعادة إحياء الفنون الشفوية والتقليدية ضمن رؤية جديدة. في مراكش، على سبيل المثال، يستعيد رواة الحكايات القديمة مجدهم في مهرجانات تحيي فن “الحلقة” الذي كان جزءًا من الذاكرة الشعبية، لكن بوسائل معاصرة تشمل الأداء الرقمي والتصوير والفيديو. هذا المزج بين الحكاية التراثية والمنصة الحديثة يعكس محاولة العرب اليوم استعادة روحهم السردية في مواجهة ثقافة رقمية تغزو الحياة اليومية.
وفي إفريقيا، يتسع حضور الفن المعاصر عبر مبادرات ومؤسسات جديدة مثل متحف الفن المعاصر الإفريقي في مراكش (MACAAL) الذي يعرض أعمالًا من مختلف بلدان القارة، ويعيد تعريف الهوية الفنية الإفريقية خارج النظرة الاستشراقية. هذا التحول من الفن المحلي إلى الفن العابر للقارات جعل من “الفن الإفريقي المعاصر” لغةً جديدة تتحدث بها القارة للعالم.
أما عالميًا، فإن الفن يعيش ثورته الرقمية. لم تعد المعارض مقتصرة على القاعات التقليدية، بل امتدت إلى الفضاء الافتراضي والمنصات التفاعلية. الحفلات الأدبية الجديدة في لندن وباريس ونيويورك، التي تجمع بين الأدب والموسيقى والفكر، تُجسّد ولادة مشهد ثقافي أكثر تحرّرًا وانفتاحًا على التجريب. الفن أصبح تجربة حياتية تفاعلية، لا مجرد عرض بصري أو نص مكتوب.
ثانيًا: الإعلام والذكاء الاصطناعي... من الخبر إلى الخوارزمية
في المغرب أيضًا، يشهد الإعلام تحوّلًا نوعيًا بفضل الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي. فقد أطلقت المؤسسة الوطنية للإذاعة والتلفزة (SNRT) أول قسم للأخبار يعتمد على الذكاء الاصطناعي، لتوليد المحتوى وتحليل البيانات وتغطية الأحداث على مدار الساعة. كما وقعت المملكة اتفاقية مع شركة Mistral AI الفرنسية لتعزيز القدرات الوطنية في هذا المجال. هذه الخطوات تؤشر إلى أن الإعلام المغربي بدأ يدخل فعليًا زمن “الصحافة الذكية”، حيث تتحول البيانات إلى مصدر أولي للأخبار، وتُصبح الخوارزميات جزءًا من غرفة التحرير.
وفي السياق ذاته، أُعلن في الرباط عن إطلاق مركز “الرقمنة من أجل التنمية المستدامة”، وهو مبادرة تسعى إلى جعل المغرب منصة رقمية للتعاون العربي الإفريقي في مجال التكنولوجيا والإعلام. كل ذلك يعكس رؤية رسمية ومجتمعية تجعل من الرقمنة أداة للتمكين الاقتصادي والثقافي معًا.
أما في العالم العربي الأوسع، فقد أصبح الإعلام الرقمي الوسيلة الأولى لاستهلاك الأخبار. فبحسب تقرير معهد رويترز لعام 2025، فإن أكثر من 75% من المتابعين العرب يحصلون على أخبارهم عبر الإنترنت، ما يضع الصحافة التقليدية أمام تحديات وجودية. من جهة أخرى، بدأت وسائل الإعلام تعتمد الذكاء الاصطناعي في التحقق من الأخبار ومكافحة التضليل، لكن هذا التطور يثير في المقابل تساؤلات أخلاقية حول حدود استخدام الخوارزميات في المجال الإعلامي وحرية التعبير.
وفي إفريقيا، حيث يشكّل الإعلام أحد ركائز التنمية، تواجه القارة تحديًا مزدوجًا: من جهة صعود الإعلام الرقمي، ومن جهة أخرى خطر الأخبار المضللة التي تُنتج أحيانًا عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي العميق (Deepfake). تقارير حديثة تناولت كيف أثّرت الحملات التضليلية على المشهد السياسي في دول مثل بوركينا فاسو، حيث تُستخدم التكنولوجيا كسلاح في الصراع الإعلامي. ورغم ذلك، تنمو مبادرات التدريب والتمكين الإعلامي في إفريقيا، لتشجع صحافة رقمية مسؤولة قادرة على مواكبة التحولات التكنولوجية.
أما على المستوى العالمي، فإن الإعلام يعيش مرحلة إعادة تعريف لمفهوم “الخبر”. لم يعد الصحفي وحده من يكتب، بل دخلت الآلة كشريك في إنتاج النصوص والتحليلات. وفي بريطانيا، أُطلقت مؤخرًا مبادرة تحمل عنوان “كتب من تأليف البشر للبشر”، وهي شهادة تميز تُمنح للكتب والمقالات التي تُكتب دون تدخل الذكاء الاصطناعي، في إشارة رمزية إلى التوازن الذي يسعى العالم للحفاظ عليه بين الإبداع الإنساني والتقنية الذكية.
ثالثًا: الأدب الرقمي... من الورق إلى الشاشة
في العالم العربي، يشق الأدب الرقمي طريقه بهدوء وثبات. فالمبادرات الأكاديمية والمؤسسات الثقافية بدأت تلتفت إلى هذا النوع الأدبي الجديد الذي يمزج بين الكتابة والتفاعل والوسائط المتعددة. الدراسات الحديثة تشير إلى أن سوق الكتاب الإلكتروني في الشرق الأوسط وإفريقيا قد يتجاوز 400 مليون دولار بحلول عام 2029، ما يعني أن القراءة نفسها أصبحت فعلًا رقميًا بامتياز. بعد أن كان “أمس” زمن الكتاب الورقي، أصبح “اليوم” زمن الرواية التفاعلية والقصيدة متعددة الوسائط.
في إفريقيا، يُعد الأدب الرقمي مجالًا ناشئًا لكنه واعد. هناك تجارب بدأت في نيجيريا وجنوب إفريقيا وكينيا، تجمع بين الكتابة باللغات المحلية والمنصات العالمية. الباحثون يرون أن الهاتف المحمول هو الأداة الأولى لنشر الأدب الإفريقي الجديد، إذ يسمح بالوصول المباشر إلى القراء دون وسطاء. التحديات التقنية تبقى كبيرة، لكن الحلم واضح: جعل الأدب الإفريقي جزءًا من المشهد الرقمي العالمي.
أما على المستوى الدولي، فإن الأدب يعيش ثورة غير مسبوقة بفضل التكنولوجيا. من الروايات التفاعلية إلى النصوص المولّدة بواسطة الذكاء الاصطناعي، تتغير علاقة القارئ بالنص. بعض الشركات باتت تطور نماذج لغوية قادرة على كتابة روايات كاملة، فيما ترد دور النشر بمبادرات لحماية الإبداع البشري، كما حدث في مبادرة “الأدب العضوي” التي تسعى إلى الحفاظ على “نقاء الكتابة الإنسانية”.
خاتمة: لحظة رقمية عالمية
ما يجري في المغرب والعالم العربي وإفريقيا ليس مجرد تحديث تقني، بل هو تحوّل حضاري شامل. فالثقافة والفنون والإعلام والأدب تتجه جميعها إلى زمن رقمي متصل، يُنتج فيه الإنسان نصه وصورته وصوته في آن واحد. الأمس كان زمن الورق والمسرح والمايكروفون، واليوم زمن الشاشة والذكاء الاصطناعي والتفاعل اللحظي.
من هذه الزاوية، يبدو أن المستقبل الثقافي والإبداعي للمغرب والعالم العربي يتوقف على مدى قدرتنا على تحويل التكنولوجيا من أداة إلى لغة، ومن وسيلة إلى فضاء للحرية والإبداع. فالثقافة لم تعد تروى فقط، بل تُبرمج أيضًا، والفن لم يعد يُعرض فحسب، بل يُتفاعل معه، والأدب لم يعد يُكتب فقط، بل يُولد في فضاء رقمي تتقاطع فيه الخوارزمية مع الخيال الإنساني.
إنها بالفعل لحظة رقمية عالمية يعيشها الإبداع الإنساني من طنجة إلى كيب تاون، ومن القاهرة إلى نيويورك، تُعيد تعريف الثقافة والفكر، وتفتح أمام الكاتب والفنان والمفكر أبوابًا جديدة نحو المستقبل.
0 التعليقات:
إرسال تعليق