1) ما قبل البداية: قرية تمشي إلى الخلف
لم تكن كيجيجي قريةً بالمعنى الذي تتفق عليه الخرائط؛ كانت ملحوظةً في دفتر السماء، تُسجَّل بالأصوات لا بالأحرف. النهار أبيض من زاويةٍ واحدة، والليل أسود من ثلاث زوايا، والوقتُ هناك يمرّ مثل قافلةٍ بلا جمال: يسمعها الجميع ولا يراها أحد. في هذا العطب الزمني
وُلد موو لانا، بوجهٍ يبدو كنافذةٍ تُطلّ على سؤال. وحين سُئلت أمّه عن مهنته المستقبلية، قالت: «سيصطاد الشيءَ الذي فرّ من اسمه، لأن الأسماء هنا تعيش أكثر من أصحابها».كبر موو لانا على حليبٍ من الضوء المصفّى، وفي كل مساء كانت أمّه تُصلّي للأشياء التي لم يوجد لها صُنّاع: للظلّ، للماء وهو يتذكّر شكله القديم، للحجر الذي يحلم أن يصبح طائرًا. وحين بلغ السنّ التي يتعلّم فيها الإنسان أن يحصي أصابعه دون أن يخطئ، قالت له: «أبوك لم يكن صيّادًا للوحوش، بل للأصوات. كان ينصب الفخاخ بين شجرتين من الصمت، وحين تسقط ضحكةٌ أو صرخةٌ أو تنهيدة، يضعها في جرّةٍ ويمضي. في النهاية صاد صوته الأخير، فاختفى داخله».
لم يفهم، لكنه شعر بالرغبة في المهنة التي تلتهم صاحبها. فخرج فجراً يبحث عن أول فخّ.
2) الأم: تماثيل الطين تهمس باللبن
كان بيتهم من طينٍ مدهونٍ بالحليب. لا يُعرف إن كانت الأم تستعير الحليب من الأبقار أم من القمر. كلما عاد، وجد على المائدة إبريقًا من الهدوء وقطعةَ خبزٍ مُنمّرة ببقع الضوء. وحين يسألها: «هل كان أبي سعيدًا؟» تقول: «السعادة لا تُذكر هنا بالصفات، تُذكر بالمقاييس: كان يملك من السعادة ما يملكه المرء من هواءٍ في رئتيه حين يغوص، يكفيه حتى يعود إلى السطح».
كانت الأم تزرع فوق سطح البيت نباتاتٍ لا تُثمر إلا ليلاً. تقول إن الليلَ هو التربة الحقيقية لأيّ شيءٍ يولد في هذا البلد ذي النهار الواحد. في آخر الليل، وهي تُقلّب النباتات بأصابعٍ لا تكبر ولا تشيخ، تهمس له: «إيّاك أن تصطاد ما يمكنه أن يصطادك». ثم تبتسم. تعلم أن النصيحة في كيجيجي مثل المرآة: تفيد من يقف خلفها، لا من أمامها.
3) الصياد: دروس أولى في نصب الفخاخ للغياب
صنع موو لانا أول فخٍّ من ظلّه. قطعه بسكّينٍ من زجاج، ضمّه إلى هيكلٍ من شمعٍ بارد، وعلّقه بين شجرتين لا تتبادلان التحية. كان الفخّ يُشبه فمًا مفتوحًا على كلمةٍ لم تُنطق بعد. في اليوم السادس — فالأيام هنا لا تُحصى إلا بالستّات — زار فخاخه فوجد في الأول قردًا يضحك دون صوت، وفي الثاني أفعى تغيّر جلدها كلّ ثانية، وفي الثالث أسدًا يلبس تاجًا من الرماد. ظنّ أن الحكاية سهلة: يحرّرهم مقابل وعدٍ أو حكمةٍ أو رزق. لكنه لم يكن يعرف أنّ المخلوقات الثلاثة ليست حيواناتٍ بقدر ما هي سراويلُ للمعاني، وأنّ من يرتدي معنىً لا يستطيع خلعَه بلا ثمن.
4) القرد: مرآتان تمشيان على أربع
كان القردُ ضئيل الحجم لكن عينَيْه اتسعتا كنافذتين على غرفةٍ لا باب لها. حين رآه موو لانا في الفخّ، شعر بأنّ أحدًا ما يفتّش في ذاكرته. قال القرد:
— أطلِقني، وسأعلّمك كيف تضحك من دون أن تُفرِح عضلةً واحدة في قلبك.
— ولماذا أحتاج تلك المهارة؟
— لأنك ستدخل إلى أماكن لا يجوز أن يدخلها مَن يفرح. الضحك هناك كلمة سرّ، لا شعور.
أطلقه. نزل القرد خفيفًا كحرفٍ خرج من سطرٍ ضاق به، ووضع على كتف موو لانا شيئًا لا يُرى، وقال: «هذه خريطة الضحك الصامت. ستحتاجها حين تُحاكَم».
— ومَن سيُحاكَم؟
— كلّ من صاد أشياءَ أكبر من فخوخه.
ثم غاب، وبقيت في الهواء رائحةُ موزٍ لم يُولَد بعد.
منذ تلك اللحظة كلما ابتسم موو لانا في وحدته سمع صدى يُصفّق في مكانٍ لا يعرفه. كان يضحك فيبدو أن الغابة صارت سمعًا. وحين جرّب أن يضحك بصوتٍ عالٍ، اختفى نصف ظلّه، كأنّ الضحكَ اقتطع منه رسمًا قديمًا. تذكّر أمّه وهي تهمس: إيّاك أن تصطاد ما يمكنه أن يصطادك. ابتسم. سمع الصدى يبتسم في مكانٍ آخر. أدرك أن الابتسام هنا ملكيةٌ متبادلة.
5) الأفعى: المعجم الذي يغيّر جلده
في الفخّ الثاني، كانت الأفعى تتحرّك مثل سطرٍ يُعاد كتابته بمدادٍ مُغايرٍ كل ثانية. جلدها قاموسٌ تقلب صفحاته الريح. حين اقترب قال:
— أأطلقك؟
— لا تُطلقني قبل أن تسأل اسمك.
— اسمي معروف.
— المعروف هو ما يتغيّر ببطء. قل اسمك الذي يهرب منك.
صمت. الأسماء في كيجيجي ليست أوعيةً لِمناداتك، بل مفاتيحٌ لِمن يدخل إلى أقبية النفس. قال: «ربما اسمي هو الفخّ». ابتسمت الأفعى ابتسامةً لا أسنان فيها:
— جيد. الآن أطلِقني. لكن تذكّر: كلّ مَن يحرّر المعجم يصير كلمةً فيه.
أخرجها من الفخّ بحذر. لفّت حول معصمه لحظةً قصيرةً كأنها تُقيس نبض اللغة، ثم انزلقت إلى العشب. منذ ذلك اليوم صار يسمع الكلمات وهي تتبدّل معانيها في فمه: الماء يعني الغياب، والملح يعني ذاكرة البحر في الدموع، و«الأم» تعني «بيتٌ يسير خلفك حيثما ذهبت». خاف. فاللغة حين تتغيّر بسرعةٍ أكبر من الخوف، يصير العيش ترجمةً متواصلة لِما لا يُفهم.
6) الأسد: فكرة الحرية حين تُحبس في جسد
في الفخّ الثالث، كان الأسد واضعًا تاجًا من رماد. رماد ماذا؟ لا أحد يعرف. ربما رماد الزمن الذي انتهى قبل أن يبدأ. قال الأسد بصوتٍ فيه خشخشةُ قاعةٍ فارغة:
— أنت لم تصدني. أنت صدتَ الفكرة التي لبستني: الحرية حين تُحبس في الجسد.
— وهل للجسد مفاتيح؟
— نعم. واحدةٌ منها على كتفك، وضعها ذلك القرد الذي يتكلم من خلف المرآتين.
تلمّس كتفه، فلم يجد شيئًا. قال الأسد: «المفاتيح في هذا البلد تعيش تحت الجلد. أطلِق الفكرة أو أغلِقها. لكن اعلم: إن أطلقتَها ستحاكمك المدينة لأنك فتحت بابًا لا يُرى، وإن حبستَها ستحاكمك الغابة لأنك خنتَ الهواء».
فتح الفخّ. مشى الأسد خطوتين، التفت، وزأر زئيرًا بلا صوت. تذكّر درس القرد: الضحك بلا فرح. وهذا الزئير بلا غضب. في تلك اللحظة اهتزّت الأشجار كأنها صفّقَت لمشهدٍ لم يُكتب بعد، وانفتح في السماء شقٌّ رأى من خلاله وحشًا في هيئة ميزان، يزن الظلال بالأسئلة.
7) المدينة: محكمة الزجاج
اختفى الطريق بين الغابة والقرية، ووجد نفسه يمشي داخل ممرٍّ من الزجاج، كل جدارٍ فيه مرآة لشيءٍ لا يتذكره. وصلت قدماه إلى قاعةٍ لا تتّسع لشخصٍ رابع: القاضي قردٌ يضحك بلا صوت، الكاتب أفعى تُبدّل حروف المحاضر كل ثانية، والحارس أسدٌ يضبط فراغ المكان كشرطيٍّ لا يحمل إلا ظله. قال القاضي:
— ما تُهمتك؟
— لم أقترف شيئًا.
— هذا أشدّ خطورة. مَن لا يقترف شيئًا لا نعرف أين نضعه في الأرشيف.
رفعت الأفعى رأسها:
— أكتبُ أنّه اصطاد فكرةً من غير إذنها.
قال الأسد بصوتٍ لا يُسمع:
— أو كتبَ له الهواءُ استدعاءً وتخلّف.
سأل القاضي:
— هل تضحك؟
— أحيانًا دون سبب.
— جيد. الضحك هنا توقيعٌ على إقرارٍ بأنك مواطنُ هذا اللا-مكان. إذًا تُدان بالهوية.
ثم نطق الحكم: السجن المؤبّد في الممرّ بين السؤال وجوابه. سجنٌ لا أبواب له، لأن الأبواب علامةُ حلولٍ في مكان، ومكانه لم يُصوَّت عليه بعد.
8) المنحوتة التي تشرب ماءها
حين أُعيد إلى القرية، لم يرجع جسدًا بل منحوتةً من الملح في ساحة البيت. كانت الأمُّ تنظّفه كل صباح بقطعة قماشٍ مبلّلة بالهواء، وتقول إنّ النحْتَ يذوب إذا لم يُسقَ. الجيران يمرّون ويسألون: «من هذا؟» تقول: «ابني الذي عاد حين صار صالحًا للعرض». في الليل، تسمع همهمةً صاعدةً من المنحوتة: ضحكةٌ تتذكّر درس القرد، هسيسٌ يتذكّر درس الأفعى، وهديرٌ يتذكّر درس الأسد.
وفي كل فجرٍ كانت الأمّ تضع على كتف ابنها المنحوت مفتاحًا صغيرًا من خشب الزيتون، وتقول: «لعلّ الخشب يتذكّر أن يكون شجرةً مرّةً أخرى، فيتذكر المفتاحُ عملَه، فتتذكّر أنت أن تفتح».
ذات مساء، هطل مطرٌ من رملٍ ناعم. ذاب الملح قليلًا، وظهرت تحت كتف المنحوتة ندبةٌ تشبه بابًا. لم تُرِد الأم أن تفتحه وحدها. فأجلت الحلمَ إلى ليلةٍ أخرى. في كيجيجي لا تُفتح الأبواب إلا بحضور شاهدٍ من الغابة.
9) رسائل حيوانية قصيرة
رسالة من القرد:
لا تُخدع بضحكك. الضحك في هذا العالم ملابسُ رسميةٌ للدخول إلى الأماكن الرفيعة في الحلم. إذا اضطررتَ أن تضحك، فتذكّر أن تضع فرحك في جيبٍ داخليّ، لا يراه أحد.
رسالة من الأفعى:
لا تتعلّق باسمك. الأسماءُ تُفلس كما تُفلس البنوك. كل اسمٍ له عمرٌ افتراضيّ. حين ينتهي، سيبدأ بتغريمك على كل استعمال. ادّخر صمتًا للطوارئ.
رسالة من الأسد:
الحرية لا تتحمّل السكن لفترةٍ طويلة. أعطها عطلةً خارج الجسد من حينٍ لآخر كي لا تُدمّر البيت على رأسك.
تلك الرسائل كانت تصل إلى الأم كأحلامٍ قصيرةٍ أثناء قيلولتها. كانت تدوّنها على حائط البيت الذي صار دفترًا عامًّا لمَن يمرّ. صار الناس يقرؤون ويبتسمون بلا سبب، ويغيّرون أسماءهم كلّ يوم جمعة، ويضعون على رؤوسهم تيجانًا من الرماد حين يحتفلون. قيل إن الطقوس الجديدة قلّلت من الجرائم، لأن اللصوص صاروا ينسون ماذا سرقوا عند أوّل ضحكةٍ صامتة.
10) درس في صناعة المفاتيح من العظام
رأى موو لانا — المنحوتة التي تشرب ماءها — في حلمٍ أن القردَ والأفعى والأسد يجلسون في ورشةٍ صغيرةٍ تصنع المفاتيح من عظام الأسئلة. كل سؤالٍ يُخرِج مفتاحًا يشبهه. المفتاح الأعرج يفتح بابًا لا يقف مستقيمًا، والمفتاحُ القصير يفتح درجًا في صدرٍ عتيقٍ داخل الذاكرة. سألوه:
— أي بابٍ تريد فتحه؟
— بابي الذي صار ندبة.
— هذا يحتاج إلى مفتاحٍ يُصنع من غيابك.
— وكيف أقدّم الغياب مادةً أولية؟
— بأن تترك شيئًا لا يمكن لأحدٍ غيرك أن يتركه: صورتك قبل الولادة.
فُزِع. كيف يقدّم صورةً لشيءٍ لم يملك فيه وجهًا؟ مدّ القرد مرآةً صغيرة. رأى فيها سؤالاً بلا وجه. قالت الأفعى: هذا يكفي. هزّ الأسد رأسه فانخلعت من التاج شرارة صارت مفتاحًا صغيرًا. سلّموه المفتاح وقالوا: “احذر. يفتح مرةً واحدة. ولا يفتح شيئًا إلا إن كان خلفه الهواء نفسه مستعدًّا”.
استيقظ. كانت الأم على الكرسي المقابل، تنظر إليه كما تنظر البستانيةُ إلى شجرةٍ قرّرت أن تؤجل إثمارها. قال لها من داخل الملح: «المفتاح في داخلي». أجابت: «وأنا لا أملك إلا دبّوسًا صغيرًا لوخز السماء. دعنا نجربه غدًا». في كيجيجي، الغد هو اسمٌ آخر لِما لا يملك أحدٌ شجاعةَ تسميته الآن.
11) فهرس الأسئلة التي تمشي
بدأ أهل القرية منذ تلك الحادثة بإعداد «فهرس الأسئلة التي تمشي». كل سؤالٍ تُلحِقه قدمان، ويُعطى قميصًا من قماشٍ شفاف، ويُترك يطوف السوق. هنا سؤالٌ عن الأب الذي اصطاد صوته الأخير، هناك سؤالٌ عن الأم التي تُرضع الضوء لا اللبن، وفي الوسط سؤالٌ عن الفخاخ: هل تصطاد ما نبحث عنه، أم تصطادنا نحن حين نبحث؟
مرّ الفهرس أمام المنحوتة. سقطت منه ورقةٌ صغيرةٌ حملتها الريحُ إلى كتف موو لانا. قرأ: «إذا ضحك الإنسان بلا فرح، وتكلّم بلا لغة، وزأر بلا جسد، فمَن يكون؟» أحسّ بكتفه ينشقّ. كانت الندبة تُضيء كنافذةٍ في جدارٍ نهاريّ. فهِم أن المفتاح صار جاهزًا.
12) فتح الباب الذي في الكتف
جاءت الأم. علّقت على عنقه خرزةً من زجاجٍ أخضر قالت إنها هديةٌ من امرأةٍ نامت ثلاثين عامًا واستيقظت لتجد ابنها شجرة. قالت: «هذه الخرزة تحفظ من النسيان المائي». أدخلت يدها في الندبة كما تُدخل يدًا في جيبٍ قديم. وجدته دافئًا. أمسكَ المفتاح الذي حُلِم به، كان باردًا كحرفٍ معدنيّ لم يُنطق من قبل. لفّته في دعاءٍ قصيرٍ لا يقول شيئًا محدّدًا — في كيجيجي الدعاء مساحةٌ تُترك لِما يريد أن يحدث. ضغطت.
انفتح الباب. ولم يُفتح. في الوقت نفسه تمامًا. رأوا من خلاله الغابةَ وهي تنقلب من الداخل إلى الخارج، والقرد يضحك دون أن يُسمَع، والأفعى تُغيّر جلدها حتى يصير الهواءُ ذاته قشرةً تُقشَّر، والأسد يضع تاجه على الأرض فينبت مكانه عشبٌ رماديٌّ قصير. سمعوا صوتًا يشبه انكسار فكرةٍ على حافة الماء.
قالت الأم: «ادخل».
قال: «إلى أين؟»
قالت: «إلى حيث يخرج الآباء الذين يصطادون أصواتهم الأخيرة. ربما تجد صوت أبيك عالقًا في شقٍّ من الريح».
— وإن لم أجده؟
— ستجد غيابك إذن، وهو أصلح ما يُتّخذ مادةً للحياة الثانية.
دخل. أصبح نصفه الداخليّ يمشي في ممرٍّ من هواءٍ موضوعٍ على رفوف، ونصفُه الخارجيّ بقي منحوتةً من الملح تبتسم ابتسامةً لا أحد يعرف هل هي وداعٌ أم استقبال.
13) العبور: ثلاث مقابلات
المقابلة الأولى: القرد
وجده واقفًا أمام طاحونةٍ للذكريات. قال القرد: «أعطني ضحكتك الصامتة كي أطحنها لك وأعيدها خبزًا».
— وما حاجتي إلى خبزٍ من الضحك؟
— كي لا تموت جوعًا في الأماكن التي يُحرَّم فيها الفرح.
المقابلة الثانية: الأفعى
كانت تمتدّ كجملةٍ لن تنتهي. قالت: «خذ هذا الجلد الأخير. إذا لبسته تذكّرت أسماءك التي لم تستعملها».
— أخشى أن أضيع بينها.
— الضياعُ هو البوصلة الوحيدة في هذا الدرب.
المقابلة الثالثة: الأسد
كان أصغر مما تصوّر، كقطٍّ كبيرٍ نائم. قال: «الحرية تحتاج إلى قيلولةٍ أيضًا. دعني أنام في قلبك قليلًا. إن استيقظتُ قبل الأوان، ستكسر قفصك بلا فرصةٍ لتبني بيتًا».
— وبيتي؟
— كل قفصٍ يُحسن صاحبه تزيينه يتحوّل بيتًا. كل بيتٍ يُهمل صاحبه نوافذه يتحوّل قفصًا.
أومأ. ترك الأسد ينام.
14) العودة التي لم تُسجَّل في الدفاتر
عاد نصفه الداخليّ وهو يحمل في يده جرّةً صغيرة. قال للأمّ: «وجدتها في شقٍّ من الريح». هزّت الجرّة فسمعت ضحكةً قديمةً وتهويدةً ونداءً يُنطق اسمه كما تُنطق أسماءُ الفصول الأولى. قالت: «هذا صوت أبيك. لم يمت إذًا. هو فقط غادر إلى المكان الذي يُخزّن فيه العالمُ الفوائض: ضحكاتٌ لم تُستعمل، أسماءٌ لم تُطلق، نوافذُ لم تُفتح».
لم يعد نصفه الخارجيّ منحوتةً تمامًا، صار جلدًا يذكِّر بالملح لا ملحًا يذكّر بالجلد. بدأ يمشي في البيت. ترك على الأرض آثارًا من رطوبةٍ خفيفة جعلت الجيران يقولون: «كأنّ البحرَ مرّ من هنا».
صار موو لانا يخرج كل مساءٍ إلى الساحة، يضع الجرّة على الطاولة، يفتحها لحظةً قصيرةً فينساب منها صوتٌ غير محدَّد: ضحكةٌ وحيدةٌ أو صرخةٌ أو تنهيدة. كان يُعيد إلى القرية مهنتها الأولى: تداول الأصوات بدل البضائع.
15) هوامش على دفتر كيجيجي
-
المرآة التي على كتف موو لانا لم تعد مرآة. صارت نافذةً صغيرة على غابةٍ تُبدّل أشجارها أماكنها كل أسبوع.
-
التاج الرماديّ الذي تركه الأسدُ في الحلم صار حديقةً من عشبٍ لا ينمو إلا إذا ضحك أحدٌ في الساحة دون سبب.
-
الأفعى تعلّم الأطفالَ لعبةً جديدة: يكتب كل طفلٍ اسمه على قصاصةٍ من ورق، ثم يبدّل الاسم مع صديقه لساعةٍ واحدة. في تلك الساعة يتعلّم الطفل أنّ «أنا» مقعدٌ قابلٌ للتبديل.
-
القرد يفتتح مدرسةً لِتعليم «البروتوكول الوجداني»: كيف تحضرُ المناسبات الكُبرى بوجهٍ لا يفضح قلبك، وكيف تحفظ قلبك من التكلّس برغم ذلك. شعار المدرسة: «اترك فرحك في الداخل، فهو يشتغل دون شهادات».
16) خاتمة: من أجل حياةٍ صالحةٍ للفخاخ
يكتب موو لانا على جدار البيت:
«لقد تعلّمتُ أن الفخاخ ليست أدواتٍ لصيد ما نريد، بل مرايا لصيد من نكون. حين نصطاد قردًا، نكتشف أن ضحكنا لا يلبّي قلوبنا؛ حين نصطاد أفعى، نكتشف أنّ أسماؤنا تُبدّل جلودها وأننا نحتاج إلى صبر المترجم؛ حين نصطاد أسدًا، نكتشف أن الحرية ليست صيحةً بل نومًا موقوتًا في صدورنا.
أبي لم يمت حين صاد صوته الأخير، بل خرج لِيسكن الجرّة التي لا تُغلق. أمي علّمتني أن اللبن قد يكون ضوءًا، وأن الدموع قد تكون بحرًا متقاعدًا. أما كيجيجي، فستظلّ قريةً تمشي إلى الخلف كي لا تطأ بقدميها ما لم يُكتَب بعد.
إن سألتَني الآن مَن أنا، قلت: أنا الممرّ بين السؤال وجوابه. وفي هذا الممرّ أوزّع المفاتيح المصنوعة من غيابٍ طويل، وأفتح أبوابًا تشتغل مرّةً واحدة، ليخرج منها الهواءُ الذي لم يجرّب الرئتين من قبل. إذا رأيتَني أضحك بلا سبب، فاعلم أنّ الضحك هنا وظيفةٌ أخلاقية: أُخفّف عن العالم ما لا يقوى على حمله من معنى. وإذا رأيتَني أزأر بصوت طفلٍ مولودٍ للتو، فاعلم أنّ الأسد في داخلي يستيقظ ليبنِي بيتًا لا قفصًا».
ثم يطوي الجدار على نفسه مثل صفحةٍ طيّبة، ويترك في الساحة جرّةً صغيرة، مفتوحًا غطاؤها قليلًا. يمرّ طفلٌ فيسمع صدى ضحكةٍ تُشبهه بعد عشرين عامًا، تمرّ امرأةٌ فتسمع تهويدةً تقول اسمًا لم تُقرّره بعد، يمرّ شيخٌ فيسمع المفاتيح وهي ترتّب أدوارها في صدور الأبواب.
وفي آخر الليل، حين ينام القمر على حجرٍ خلف بيت الأم، تظهر فوق السطح نبتةٌ جديدة لا تُثمر إلا إذا نطق أحدهم: «أنا لستُ أنا تمامًا، لكنّي أصلحُ للمشي بينهما». عندها فقط، تُقفل كيجيجي دفتر ذلك اليوم، وتضع على الغلاف عنوانًا صغيرًا:
«قصةٌ صالحةٌ للتنقّل بين الفخاخ».








0 التعليقات:
إرسال تعليق