1
أَنَا فَرَاشَةٌ هَجِينَةٌ، أَحْمِلُ جَنَاحَيْنِ مَخِيطَيْنِ بِحُلْمٍ وَرَمَادٍ،
أَطِيرُ نِصْفَ يَوْمِي فَوْقَ مِلْحِ البَحْرِ، وَنِصْفَهُ الآخَرَ فِي غُبَارِ الطَّرِيقِ،
أَسْأَلُ رِيشَةَ الآفَاقِ: هَلْ لِلْخِفَّةِ مِيزَانٌ؟
فَتُجِيبُنِي الزُّهُورُ: الخِفَّةُ ذِكْرَى، وَالثِّقَلُ جِرَاحَةُ اسْمٍ قَدِيمٍ.
2
لِي جِلْدٌ مِنْ أَلْوَاحِ ضَوْءٍ، وَقَلْبٌ يُتَرْجِمُ الصَّمْتَ إِلَى نَبْرَةٍ وَحِيدَةٍ،
إِذَا ارْتَفَعَتْ رِيحُ الخَيْبَةِ رَقَّتْ قِشْرَتِي كَأَنَّهَا مَطَرٌ يَتَعَلَّمُ الهُبُوطَ،
أَقُولُ لِنَفْسِي: لَا تُسَمِّ الأَلَمَ بِلَادًا،
فَيَرُدُّنِي ظِلِّي: بَلْ سَمِّ البِلَادَ شُعَاعًا يُقِيمُ فِي العَظْمِ.
3
أَجْمَعُ قِطَعًا مِنْ بَارْكُودِ المَدِينَةِ، وَأُلَصِّقُهَا عَلَى وَرَقِ جَنَاحِي،
أَعْبُرُ نَاصِيَةَ الزَّمَنِ كَمَنْ يَبِيعُ الذَّاكِرَةَ بِصُورَةٍ مُشَوَّشَةٍ،
أَحْفُرُ سُلَّمًا مِنْ أَسْمَاءِ الأَصْدِقَاءِ لِأَصِلَ إِلَى نَجْمَةٍ تُصْغِي،
فَتَتَفَتَّتُ النَّجْمَةُ إِلَى أَسْئِلَةٍ، وَأَبْقَى أَنَا جَوَابًا يَبْحَثُ عَنْ سُؤَالٍ.
4
إِذَا تَعِبَ الجَنَاحُ الأَيْمَنُ مِنْ مِحْنَةِ الرُّقْيَا، أُعِيرُهُ حُلُمَ الطُّفُولَةِ،
وَإِذَا ارْتَعَشَ الأَيْسَرُ مِنْ فَرْطِ البِشَارَاتِ أُثَقِّلُهُ بِآيَةِ خَيْبَةٍ،
أَنُثْنِي عَلَى هِجْرَتِي وَأَمْدَحُهَا كَأَنَّهَا مَوْلِدٌ ثَانٍ،
فَتَسْقُطُ مِمَّا بَيْنَ أَصَابِعِي خَرِيطَةٌ تُقِيمُ فِي العَيْنِ.
5
أَرَى فِي الزُّجَاجِ وَجْهًا أَكْبَرَ مِنِّي، يَلْبَسُنِي كَقِصَّةٍ مُؤَجَّلَةٍ،
أَمْسَحُ عَلَى وَجْهِهِ فَيَتَنَاثَرُ كَالطَّحْلَبِ عَلَى صَدْرِ مَوْجَةٍ،
وَأَقُولُ لِمِرْآيَتِي: لَا تُخَوِّفِينِي بِمَا سَيَأْتِي،
فَتَرُدُّ: الَّذِي يَأْتِي يَسْكُنُ فِي صُدْفَةِ اسْمِكَ مُنْذُ بَدَأْتَ.
6
لِلرِّيحِ مِزَاجٌ هَشٌّ كَالْعِطْرِ، تُعَلِّمُنِي كَيْفَ أَمُرُّ بِلَا أَثَرٍ،
وَلِلطِّينِ بَيَانٌ يَخْتَبِرُ خَطْوَتِي إِذَا ثَقُلَتْ بِالأَحْلَامِ،
أَضَعُ حَصَاةً فِي جَيْبِي لِأَتَذَكَّرَ ثِقْلَ الأَسْمَاءِ،
وَأُطْلِقُ فِي السَّمَاءِ نَدَاءً: يَا خِفَّتِي، لَا تَتْرُكِينِي لِلْأَرْضِ.
7
أُحِبُّ مَا يَجْمَعُ الأَضْدَادَ: مَطَرًا يَشْتَعِلُ، وَنَارًا تَبْتَلُّ،
أَضُمُّ مَعْنًى إِلَى مَعْنًى، كَأَنِّي أَفْتَحُ بَابًا فِي حَجَرٍ نَائِمٍ،
أُخْفِي فِي صَدْرِي طَيْرًا يَهْدِرُ بِاسْمِي إِذَا نَمْتُ،
وَأُسَكِّنُهُ إِذَا صَحَوْتُ: يَا طَيْرِي، تَأَدَّبْ بِالصِّمْتِ.
8
لَا أَبْحَثُ عَنْ وَطَنٍ يُسَمِّينِي، بَلْ عَنْ اسْمٍ يُقِيمُ فِي وَطَنِي،
أَجُسُّ نَبْضَ اللُّغَةِ كَمَنْ يَقِيسُ مَسَافَةَ قُبْلَتَيْنِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ،
أَكْتُبُ: «أَنَا هُنَا»، فَيَمْحُو المَدُّ نِصْفَ الجُمْلَةِ،
وَيَتْرُكُنِي لِلنِّصْفِ الآخَرِ: أَنَا… كَأَنَّنِي لَا أَكْتَمِلُ إِلَّا بِي.
9
أَسْتَعِيرُ مِنَ الظِّلَالِ خَفَاءَهَا، وَمِنَ الشَّمْسِ شَهْقَتَهَا الأُولَى،
أَرْقُصُ عَلَى حَافَّةِ مِزَاجِي كَحَبَّةِ قَمْحٍ تُجَرِّبُ رِيحَيْنِ،
إِذَا انْكَسَرَتْ فِكْرَتِي لَمْ أَجْمَعْ شَظَايَاهَا، بَلْ أَسْقَيْتُهَا،
حَتَّى تُنْبِتَ سُؤَالًا أَكْثَرَ خِفَّةً مِنْ بَدَايَتِهَا.
10
فِي آخِرِ الطَّرِيقِ لَا آخِرَ، وَإِنَّمَا نُقْطَةُ بَدْءٍ تُغَيِّرُ مَكَانَهَا،
أُطْفِئُ عَلَى كَتِفِي أَسْمَاءً كَثِيرَةً كَأَنَّهَا نُجُومٌ مُتْعَبَةٌ،
وَأَتْرُكُ لِجَنَاحَيَّ مَتَّسَعًا لِتَفَاهُمٍ صَامِتٍ،
ثُمَّ أَقُولُ: أَنَا الفَرَاشَةُ الهَجِينَةُ… وَهَذِهِ هَدِيَّةُ الخِفَّةِ لِلثِّقْلِ.







.jpg)
0 التعليقات:
إرسال تعليق