يشهد مجلس الأمن الدولي اليوم الجمعة الحادي والثلاثين من أكتوبر سنة 2025 جلسة استثنائية للتصويت على قرار يعد من أكثر القرارات حساسية في تاريخ نزاع الصحراء المغربية الممتد منذ ما يقارب نصف قرن. فبعد سنوات طويلة من الجدل السياسي والميداني والدبلوماسي، سيُطرح أمام الدول الأعضاء مشروع قرار يدعو إلى مفاوضات مباشرة بين جميع الأطراف حول مخطط الحكم الذاتي الذي قدمه المغرب سنة 2007 باعتباره الإطار الواقعي الوحيد القابل للتطبيق تحت السيادة المغربية. إنها لحظة تتجاوز الجانب الإجرائي للتصويت لتلامس عمق التحولات الجيوسياسية في شمال إفريقيا، حيث يتقاطع المحلي بالإقليمي والدولي، وحيث تسعى الأمم المتحدة إلى إغلاق واحد من أقدم الملفات العالقة في تاريخها.
منذ أن أطلق المغرب
مبادرته للحكم الذاتي سنة ألفين وسبعة، حظيت الفكرة بتأييد متزايد من القوى الكبرى،
خاصة بعد اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء سنة ألفين وعشرين، ثم
انضمام عدد من الدول الأوروبية واللاتينية والإفريقية إلى الموقف نفسه. في المقابل
ظلّ تنظيم البوليساريو، المدعوم من الجزائر، متمسكاً بخيار الاستفتاء الذي لم يعد ممكناً
لا قانونياً ولا سياسياً ولا عملياً. ويأتي قرار اليوم بعد ضغوط أمريكية وفرنسية لإعادة
توجيه مقاربة الأمم المتحدة نحو الواقعية، بحيث لم يعد النقاش حول من له الحق في السيادة،
بل حول كيف تُمارس هذه السيادة بما يضمن كرامة السكان واستقرار المنطقة وتنميتها. فالتحول
في لغة الدبلوماسية الأممية بات واضحاً، إذ انتقلت المفردات من “تقرير المصير” إلى
“حل سياسي واقعي ودائم ومبني على التوافق”، وهو بالضبط ما ينسجم مع المبادرة المغربية.
تشير المعطيات الراهنة
إلى أن أغلب المؤشرات تميل نحو تبنّي القرار الأممي بأغلبية مريحة، مع بعض التحفظات
المحدودة من روسيا أو من دول إفريقية حليفة للجزائر. ويرجح أن تتضمن الصيغة النهائية
تأكيداً على دعم المسار السياسي على أساس الحكم الذاتي المغربي، وتمديد ولاية بعثة
المينورسو لمدة محدودة مع تكليفها بمتابعة المفاوضات المباشرة، ودعوة جميع الأطراف،
بما فيها الجزائر، إلى الانخراط بحسن نية في العملية الجديدة. وفي حال اعتماد القرار
بهذه الصيغة فسيشكل ذلك إقراراً دولياً نهائياً بواقعية المقاربة المغربية ونهاية فعلية
لأسطورة الاستفتاء المؤجل.
السيناريو الأول المرجح
بعد هذا التصويت هو تفعيل الحكم الذاتي كمرحلة انتقالية نحو الحل النهائي. في هذه الحالة
ستنطلق مفاوضات تقنية حول تفاصيل تطبيق الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية ضمن إطار
سيادة المغرب الكاملة، لكن مع صلاحيات واسعة للهيئات المحلية المنتخبة في التشريع والثقافة
والاقتصاد. وسيعتمد المغرب على ما حققه من إنجازات في النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية
الذي تجاوزت استثماراته عشرة مليارات دولار، وعلى البنية التحتية الجديدة مثل ميناء
الداخلة الأطلسي وممر الربط مع إفريقيا الغربية، إضافة إلى التأطير الحقوقي والسياسي
الذي يتيح للسكان المحليين التمثيل الذاتي في المجالس الجهوية. أما بالنسبة لسكان مخيمات
تيندوف فقد يشكل القرار بداية عملية لفتح باب العودة الطوعية، خصوصاً إذا ضمنت الأمم
المتحدة حوافز اقتصادية واجتماعية وإنسانية لهؤلاء العائدين في إطار رؤية تقوم على
الاندماج في التنمية لا في التبعية. هذا السيناريو يحمل آثاراً إيجابية عديدة منها
إنهاء نزاع إقليمي مُنهك، وفتح بوابة استقرار أوسع بين المغرب والجزائر، وتحويل الصحراء
إلى جسر للتعاون الإفريقي والأطلسي.
أما السيناريو الثاني
فهو تجميد القرار واستمرار الوضع الراهن في حال تصاعد الرفض من طرف البوليساريو والجزائر
ورفضهما الدخول في مفاوضات على أساس الحكم الذاتي فقط. عندها قد تعود القضية إلى دائرة
الجمود، مع تمديد متكرر لبعثة المينورسو دون تقدم فعلي. وهذا يعني بقاء الإقليم في
حالة “نصف اعتراف”، أي منطقة تنمو وتستثمر فيها المملكة، مقابل مخيمات تعيش في فقر وعزلة سياسية وإنسانية متزايدة. مخاطر هذا
السيناريو واضحة في احتمال تصاعد التوتر العسكري على طول الجدار الأمني، واستغلال الأطراف
المعادية لغياب الحل لإحياء خطاب الانفصال، وتأجيل التنمية الجهوية وتبديد الموارد
في الصراع الدبلوماسي. ومع ذلك فإن الزمن الجيوسياسي لم يعد في صالح أطروحة الانفصال،
خاصة بعد تحوّل الاهتمام الدولي نحو الأمن الإقليمي وممرات الطاقة الإفريقية، حيث يُعد
المغرب شريكاً موثوقاً ومستقراً.
ويظل السيناريو الثالث
هو الأكثر طموحاً وإن كان الأصعب، ويتمثل في بناء توافق إقليمي جديد وتعايش مشترك بين
الصحراء وتيندوف عبر مبادرة برعاية أممية وإفريقية لخلق مجلس تنمية مغاربي–صحراوي يضم
ممثلين من المغرب والبوليساريو وسكان تيندوف بهدف تأسيس آلية اقتصادية وإنسانية مشتركة.
الفكرة هنا ليست تقاسم السيادة بل توسيع فضاء التعايش بين المجتمعات المتجاورة على
جانبي الحدود عبر مشاريع مشتركة في الطاقة والفلاحة واللوجستيك، وفتح معابر إنسانية
وتجارية بإشراف أممي، وتحويل تيندوف من معسكر لجوء إلى منطقة عبور وتكامل. ورغم أن
هذا السيناريو يبدو مثالياً فإنه يجسد حلم المغرب الكبير القائم على التعاون لا التنافر،
وعلى التنمية لا النزاع.
وفي ظل هذه الاحتمالات
يبرز دور صانعي القرار والفاعلين في المغرب الذين تقع على عاتقهم مسؤولية تحويل المكاسب
السياسية إلى واقع ملموس. المطلوب أولاً تفعيل الدبلوماسية التنموية عبر تسريع المشاريع
الاقتصادية في الداخلة والعيون ورفع مستوى التعليم والتشغيل في الأقاليم الجنوبية.
وثانياً تعزيز المقاربة الحقوقية والتمثيلية بإشراك الصحراويين في صياغة المرحلة الجديدة
وضمان تمثيلهم في الهيئات الوطنية والدولية لقطع الطريق أمام أي تأويل انفصالي. وثالثاً
فتح قنوات التواصل مع المجتمع المدني في تيندوف من خلال مبادرات إنسانية وثقافية غير
سياسية تمهد لجسر الثقة وإعادة الروابط العائلية. كما ينبغي تحصين المكتسبات دبلوماسياً
بتوسيع دائرة الاعتراف الدولي بمغربية الصحراء واستثمار الشراكات مع الاتحاد الأوروبي
والاتحاد الإفريقي، والأهم إدارة النصر بحكمة لأن لحظة الانتصار السياسي هي أيضاً لحظة
اختبار أخلاقي بين عقل الدولة وروح التاريخ.
في النهاية، مهما كانت
نتيجة تصويت مجلس الأمن فإن مغربية الصحراء لم تعد موضوعاً للنقاش بقدر ما أصبحت واقعاً
متجذراً في الأرض والذاكرة والتنمية. غير أن التحدي الأكبر أمام المغرب اليوم ليس إثبات
السيادة بل تحقيق التعايش بين أبناء الصحراء وأبناء تيندوف، وإقناع المجتمع الدولي
بأن الحكم الذاتي ليس مجرد حل وسط بل ولادة جديدة لعقد اجتماعي مغاربي يقوم على الاعتراف
والعدالة والتنمية المشتركة. وهكذا يكون تصويت اليوم لحظة فاصلة لا بين الحرب والسلم
فقط، بل بين ماضٍ انقضى ومستقبل يتشكل على أرض مغربية خضراء بالسلام والنماء.
عبده حقي








0 التعليقات:
إرسال تعليق