في مساءِ يومِ الجمعة الحادي والثلاثين من أكتوبر عام ألفين وخمسةٍ وعشرين، دوّى في قاعة مجلس الأمن بنيويورك صوتٌ دبلوماسيٌّ جديدٌ حمل معه ملامح مرحلةٍ سياسيةٍ مختلفةٍ في ملفِّ الصحراءِ المغربية. القرار رقم ألفين وسبعمائةٍ وسبعةٍ وتسعين الذي تقدّمت به الولاياتُ المتحدة الأمريكية لم يكن مجرّد تجديدٍ تقنيٍّ لولاية بعثة المينورسو، بل تحوّل إلى وثيقةٍ مفصليةٍ تُعيد صياغةَ معادلةِ النزاعِ المستمرِّ منذ نصف قرن. ففي سابقةٍ لغويةٍ وسياسيةٍ أعلن المجلسُ صراحةً أنَّ الحكمَ الذاتيَّ الحقيقيَّ تحتَ السيادةِ المغربيةِ يمكن أن يشكّلَ الحلَّ الأكثرَ جدوى، فاتحًا البابَ أمام مقاربةٍ أمميةٍ جديدةٍ تقوم على الواقعيةِ السياسيةِ بدلَ أوهامِ الاستفتاءِ.
لقد حظي القرارُ بتأييدِ
أحدَ عشرَ عضوًا وامتناعِ ثلاثةٍ هم روسيا والصين وباكستان، بينما غابت الجزائر عن
التصويت، في موقفٍ يعكسُ امتعاضًا دبلوماسيًّا لكنه أيضًا اعترافٌ بالعجزِ عن منعِ
التحوّلِ الدوليِّ المتسارعِ في اتجاهِ تثبيتِ الرؤيةِ المغربية. ويبدو واضحًا أنَّ
النصَّ الجديدَ لم يأتِ من فراغٍ بل هو ثمرةُ مسارٍ دبلوماسيٍّ طويلٍ بدأ مع مبادرةِ
الحكمِ الذاتيِّ التي تقدّم بها المغرب سنة ألفين وسبعة، وها هو اليومَ يتكرّسُ رسميًّا
داخلَ وثيقةٍ صادرةٍ عن مجلسِ الأمن الدولي، الأمر الذي يضعُ حدًّا للغموضِ الذي طبعَ
مقاربةَ الأمم المتحدة لسنواتٍ طويلة.
لقد شهدت لغةُ القرار
تحوّلًا عميقًا في جوهرِها، إذ انتقل المجلسُ من الحديثِ عن حلٍّ سياسيٍّ عادلٍ ودائمٍ
ومقبولٍ للطرفين إلى تحديدِ الإطارِ المرجعيِّ لهذا الحلّ في صيغةِ الحكمِ الذاتيِّ
تحت السيادة المغربية. هذا التحوّلُ اللغويُّ ليس مجرّد اعترافٍ ضمنيٍّ بل هو إعادةُ
تعريفٍ لمفهومِ تقريرِ المصيرِ نفسه، إذ لم يعد المقصودُ به الانفصالَ بل الممارسةَ
الديمقراطيةَ للسلطةِ داخلَ الدولةِ الأمّ. كما أنّ استخدامَ عبارةِ الحكمِ الذاتيِّ
الحقيقيِّ يُشير إلى أنّ المجلسَ يدركُ حجمَ التحوّلاتِ التي عرفتها الأقاليمُ الجنوبيةُ
خلال العقدين الأخيرين، من حيثُ التنميةُ الاقتصاديةُ والمشاركةُ السياسيةُ والبنيةُ
التحتيةُ التي تجسّدُ بالفعلِ جوهرَ فكرةِ الحكمِ الذاتيِّ.
أما من حيثُ موازينُ
القوى داخلَ مجلسِ الأمن فقد بدا الموقفُ الأمريكيُّ حاسمًا، إذ بصفتها صاحبةَ القلمِ
في الملفِّ رسّخت واشنطن رؤيتها التي تعتبرُ أنّ الحكمَ الذاتيَّ المغربيَّ هو الحلُّ
الواقعيُّ الوحيدُ القابلُ للتطبيق. ويأتي هذا الموقفُ استمرارًا للاعترافِ الأمريكيِّ
بسيادةِ المغرب على الصحراء الذي أقرّته إدارةُ ترامب سنة ألفين وعشرين، وتبنّته الإداراتُ
اللاحقةُ كسياسةٍ ثابتةٍ تحتَ عنوانِ دعمِ الاستقرارِ الإقليميِّ. كما أيّدت فرنسا
وبريطانيا القرارَ من منطلقِ تلاقي مصالحِهما مع المغرب في حفظِ الأمنِ ومكافحةِ الإرهابِ
وتعزيزِ التنميةِ في منطقةِ الساحل والصحراء. أمّا روسيا والصين وباكستان فقد امتنعت
عن التصويتِ دونَ معارضةٍ صريحةٍ، وهو ما يعني قبولًا ضمنيًّا بالتحوّلِ الجديدِ دون
الاصطفافِ إلى جانبِ الغرب، فيما مثّل امتناعُ الجزائر عن التصويتِ اعترافًا سياسيًّا
بفقدانِ القدرةِ على التأثيرِ في مسارِ الملفّ.
إنّ القرار رقم ألفين
وسبعمائةٍ وسبعةٍ وتسعين يعبّر عن تحوّلٍ نوعيٍّ في مقاربةِ الأمم المتحدة للنزاع.
فمنذ إنشاءِ بعثةِ المينورسو عام ألفٍ وتسعمائةٍ وواحدٍ وتسعين ظلّت المنظمةُ الأمميةُ
أسيرةَ مقاربةٍ استفتائيةٍ مستحيلةٍ من الناحيةِ العمليةِ والسياسية، أما اليومَ فقد
حسم المجلسُ الأمرَ بتحويلِ النقاشِ نحو حلٍّ سياسيٍّ توافقيٍّ قائمٍ على مبادرةِ المغرب.
فالأممُ المتحدة لم تعد تتعاملُ مع الملفِّ كوسيطٍ محايدٍ بين طرفين متكافئين، بل كميسّرٍ
لمسارٍ تفاوضيٍّ داخلَ إطارٍ واضحٍ هو الحكمُ الذاتيُّ تحت السيادةِ المغربية. وبهذا
المعنى يمكن القولُ إنّ القرارَ الأمميَّ أنهى فعليًّا مرحلةَ الغموضِ والجمودِ التي
سادت طوالَ العقودِ الماضية.
ومن الناحيةِ القانونيةِ
يُعدُّ إدراجُ الحكمِ الذاتيِّ في نصٍّ ملزمٍ صادرٍ عن مجلسِ الأمن سابقةً ذات دلالةٍ
كبيرةٍ، إذ يُكسبُ المقترحَ المغربيَّ شرعيةً معياريةً دوليةً ويفتحُ البابَ أمام تحوّلِ
مفهومِ تقريرِ المصيرِ إلى صيغةٍ داخليةٍ تُمارسُ ضمنَ الدولةِ ذاتِ السيادةِ. كما
أن تجديدَ ولايةِ المينورسو لعامٍ كاملٍ بدلَ ستةِ أشهرٍ كما كان معمولًا به سابقًا
يُعبّر عن رغبةٍ في تثبيتِ الاستقرارِ وإعطاءِ الوقتِ الكافي للمفاوضات، في حين أن
طلبَ مراجعةٍ استراتيجيةٍ خلال ستةِ أشهرٍ يُشيرُ إلى إمكانيةِ تعديلِ مهامِّ البعثةِ
لتواكبَ مستقبلًا تنفيذَ الحكمِ الذاتيِّ بدلَ مراقبةِ استفتاءٍ لم يعد مطروحًا.
وتبرزُ انعكاساتُ القرارِ
على المستوياتِ الإقليميةِ بوضوحٍ، فبالنسبة للمغرب يمثّلُ القرارُ تتويجًا لجهودٍ
دبلوماسيةٍ متواصلةٍ منذ أكثرَ من عقدين، ويمنحه غطاءً أمميًّا قويًّا لمواصلةِ مشروعِ
التنميةِ في أقاليمه الجنوبية. أما الجزائر فقد تكبّدت خسارةً استراتيجيةً مزدوجةً،
إذ انتهى وهمُ الاستفتاءِ الذي روّجت له لعقودٍ، وتراجعَ نفوذُها الإقليميُّ داخلَ
إفريقيا والمنظماتِ الدولية. بينما تجدُ جبهةُ البوليساريو نفسَها في مأزقٍ وجوديٍّ
صعبٍ، إذ لم يعد أمامها سوى خيارين: القبولُ بالمفاوضاتِ على أساسِ الحكمِ الذاتيِّ
أو فقدانُ أيِّ شرعيةٍ دوليةٍ. على المستوى المغاربي الأوسع يعيدُ القرارُ رسمَ توازناتِ
القوةِ، حيث يبرزُ المغربُ كقوّةِ استقرارٍ مدعومةٍ غربيًّا، فيما تنزوي الجزائرُ إلى
موقعٍ دفاعيٍّ متردّدٍ، الأمرُ الذي قد يفتحُ البابَ لإحياءِ الاتحادِ المغاربي على
أسسٍ جديدةٍ إن أحسنَ المغربُ استثمارَ الظرفِ الإقليميِّ الراهن.
ويكتسب القرارُ أيضًا
بعدًا اقتصاديًّا وتنمويًّا لافتًا، إذ يربطُ صراحةً بين الحلِّ السياسيِّ والسلامِ
الدائمِ، وبين السلامِ والتنميةِ الاقتصاديةِ. فالمغربُ يعي تمامًا أن نجاحَ الحكمِ
الذاتيِّ مرهونٌ بتحويلِ الأقاليمِ الجنوبيةِ إلى نموذجٍ إفريقيٍّ في الازدهارِ والانفتاحِ.
وقد شرع فعلًا في إطلاقِ مشاريعَ ضخمةٍ كميناءِ الداخلةِ الأطلسيِّ وخطوطِ الربطِ الطاقيِّ
والطرقِ السريعةِ ومناطقِ الاستثمارِ الصناعي، وهي مشاريعُ لم تعد محليةً فحسب، بل
باتت تمتلكُ الآن غطاءً سياسيًّا دوليًّا بفضلِ القرارِ الأمميّ الجديد.
ورغم هذا الزخمِ الإيجابيِّ
تظلّ هناك تحدياتٌ قائمةٌ تهدّدُ بإبطاءِ المسارِ أو التشويشِ عليه، أبرزها الممانعةُ
الجزائريةُ التي قد تتخذُ شكلَ تصعيدٍ إعلاميٍّ أو عسكريٍّ محدودٍ قربَ الجدارِ الأمنيّ،
والوضعُ الإنسانيُّ الهشُّ في مخيماتِ تندوف الذي يتطلّبُ معالجةً مغربيةً–أمميةً إنسانيةً
ذكيةً تتيحُ لسكانِ المخيماتِ التواصلَ مع ذويهم في الداخل. كما ينبغي للمغرب أن يعزّزَ
منظومتَه الحقوقيةَ في الأقاليمِ الجنوبيةِ ويُوسّعَ صلاحياتِ المؤسساتِ الوطنيةِ لحقوقِ
الإنسان بما يقطعُ الطريقَ أمامَ أيِّ استغلالٍ خارجيٍّ محتملٍ. أما بطءُ المفاوضاتِ
وتضاؤلُ الزخمِ الدوليِّ فهما خطرانِ حقيقيانِ يمكن تفاديهما بمبادراتٍ مغربيةٍ استباقيةٍ
تضمنُ استمرارَ المسارِ السياسيِّ في اتجاهٍ واحد.
ولمواجهةِ هذه التحدياتِ
تبرزُ جملةٌ من التوصياتِ العمليةِ التي على المغربِ أن يتبنّاها فورًا، أولُها الانتقالُ
من الدبلوماسيةِ الدفاعيةِ إلى الدبلوماسيةِ الهجوميةِ الإيجابيةِ، عبرَ تنظيمِ جولاتٍ
تواصليةٍ دوليةٍ لتوسيعِ قاعدةِ الاعترافِ بالمبادرةِ المغربية، وعقدِ مؤتمرٍ دوليٍّ
في الداخلة حولَ الحكمِ الذاتيِّ كآليةٍ لحلِّ النزاعاتِ الإقليميةِ. وثانيها إعدادُ
خارطةِ طريقٍ داخليةٍ واضحةٍ تتضمّنُ الجوانبَ التشريعيةَ والإداريةَ والماليةَ والأمنيةَ،
تمهيدًا لإطلاقِ القانونِ الأساسيِّ للحكمِ الذاتيِّ الذي يُحدّدُ صلاحياتِ البرلمانِ
المحليِّ والحكومةِ الجهويةِ. كما يُستحسنُ إنشاءُ لجنةٍ وطنيةٍ عليا تُشرفُ على تنفيذِ
مراحلِ المشروعِ بمشاركةِ ممثلينَ عن الأقاليمِ الجنوبيةِ والمجتمعِ المدنيّ.
ومن المهمّ أيضًا الانفتاحُ
الإنسانيُّ على سكانِ المخيماتِ عبرَ إحداثِ ممراتٍ إنسانيةٍ تُشرفُ عليها الأممُ المتحدة
وتتيحُ عودةً طوعيةً لمن يرغبُ، مع ضمانِ السكنِ والعملِ والتعليمِ للعائدين. كما يجبُ
على المغربِ أن يُواصلَ إصلاحَ منظومتِه الحقوقيةِ محليًّا بتمكينِ المجلسِ الوطنيِّ
لحقوقِ الإنسان من صلاحياتٍ رقابيةٍ موسّعةٍ، والسماحِ بزياراتٍ دوليةٍ للمقرّرينَ
الأمميينَ لإثباتِ الشفافيةِ والانفتاحِ.
أما على المستوى الإقليميِّ
فينبغي تعميقُ التعاونِ مع موريتانيا سياسيًّا واقتصاديًّا لتكريسِ العمقِ الإفريقيِّ
للمبادرة، خصوصًا في مشاريعِ النقلِ والطاقةِ والخدماتِ اللوجستيةِ العابرةِ للصحراءِ.
ويمكنُ ترتيبُ هذه الرؤيةِ التنفيذيةِ ضمن جدولٍ زمنيٍّ يمتدُّ من عامِ ألفين وستةٍ
وعشرين إلى عامِ ألفين وثلاثين، حيث تبدأ المرحلةُ الأولى بالتحضيرِ الدبلوماسيِّ والسياسيِّ
وتنظيمِ جولةِ مفاوضاتٍ أولى برعايةِ الأمم المتحدة، تليها المرحلةُ التشريعيةُ لإقرارِ
القانونِ الأساسيِّ للحكمِ الذاتيِّ، ثم الانتقالُ التدريجيُّ للإدارةِ المحليةِ وإجراءُ
انتخاباتٍ جهويةٍ حرةٍ، فمرحلةُ التثبيتِ الاقتصاديِّ التي تتزامنُ مع إطلاقِ المشاريعِ
الكبرى، وأخيرًا التقييمُ الدوليُّ للتجربةِ الذي يمكنُ أن يُتوّجَ بإعلانِ التسويةِ
النهائيةِ وإغلاقِ الملفِّ نهائيًّا على الصعيدِ الأمميّ.
إنّ القرار رقم ألفين
وسبعمائةٍ وسبعةٍ وتسعين هو بدايةُ مسارٍ تاريخيٍّ لإعادةِ بناءِ الجغرافيا السياسيةِ
في شمالِ إفريقيا. فإذا نجح المغربُ في ترجمةِ هذا الاعترافِ الدوليِّ إلى مشروعٍ مؤسّسيٍّ
واقعيٍّ فإنّ الصحراءَ ستتحوّلُ من بؤرةِ نزاعٍ إلى فضاءِ تكاملٍ مغاربيٍّ–إفريقيٍّ
مزدهر. أما إذا أُهدرَت هذه الفرصةُ فقد تعودُ المنطقةُ إلى دائرةِ الجمودِ القديمة.
لكنّ المعطياتِ الراهنةَ تشيرُ بوضوحٍ إلى أنَّ الزمنَ صارَ مغربيًّا بامتياز، وأنَّ
القرارَ الأمميَّ الجديدَ ليس نهايةَ مسارٍ بل بدايتهُ الحقيقيةُ نحوَ حلٍّ دائمٍ ومستقرٍّ.
إنّ قرارَ مجلسِ الأمنِ رقم ألفين وسبعمائةٍ وسبعةٍ وتسعين هو انتصارٌ قانونيٌّ ودبلوماسيٌّ للمغرب، وتحوّلٌ نوعيٌّ في فهمِ المجتمعِ الدوليِّ لقضيةِ الصحراءِ. لقد انتقلَ الخطابُ الأمميُّ من وهمِ الاستفتاءِ إلى واقعيةِ الحكمِ الذاتيّ، ومن سياسةِ الانتظارِ إلى منطقِ التنفيذ. والمطلوبُ الآن أن يواكبَ المغربُ هذا التحوّلَ بخطةٍ تنفيذيةٍ شجاعةٍ تُحوّلُ النصرَ الدبلوماسيَّ إلى واقعٍ ملموسٍ على الأرض. فالتاريخُ لا يمنحُ الشعوبَ فرصًا كثيرة، غيرَ أنّ الفرصةَ اليومَ قائمةٌ كي تتحوّلَ الصحراءُ المغربيةُ من ملفٍّ سياسيٍّ مُعلّقٍ إلى نموذجٍ عربيٍّ وإفريقيٍّ في بناءِ السلامِ والتنميةِ والوحدةِ.
توقيع: عبده حقي








0 التعليقات:
إرسال تعليق