الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الخميس، ديسمبر 18، 2025

الجزائر بين شعبوية القرار وأزمة الدولة:عبده حقي

 


تتراكم في الجزائر، بوتيرة متسارعة، مؤشرات أزمة عميقة لم تعد قابلة للإخفاء بخطاب السيادة ولا بتعبئة المشاعر الوطنية. فخلف واجهة القرارات “الاجتماعية” والشعارات الشعبوية، يتكشف واقع هشّ لدولة تعاني اختناقًا اقتصاديًا، وانسدادًا سياسيًا، وتوترًا اجتماعيًا يطال الفئات الأوسع من المجتمع، في مشهد بات أقرب إلى إدارة يومية للأزمات بدل صياغة مشروع وطني متماسك.

أولى علامات هذا الاختناق تتجلى في السياسات المالية الأخيرة، التي رُوّج لها كإجراءات “دعم اجتماعي”، وعلى رأسها منحة الـ750 يورو. غير أن ما يبدو في الخطاب الرسمي آلية إنقاذ للفئات الهشة، تحوّل في الواقع إلى أداة إقصاء جماعي، بعدما كشفت الشروط المصاحبة لها عن استبعاد ملايين الجزائريين من الحق في الحساب البنكي، ومن ثم من الاستفادة من أي دعم. وهنا لا نتحدث فقط عن خلل إداري، بل عن فلسفة حكم ترى في التعقيد البيروقراطي وسيلة لضبط المجتمع، لا لخدمته.

هذه المقاربة ليست معزولة عن منطق اقتصادي أوسع. فالجزائر، التي راكمت لعقود خطاب “الثراء الطاقي”، دخلت عمليًا منذ 2025 مرحلة ما بعد الريع النفطي والغازي، ليس لأن الموارد نضبت فجأة، بل لأن نموذج التدبير استُهلك بالكامل. العائدات لم تُحوَّل إلى تنويع اقتصادي حقيقي، ولا إلى صناعة، ولا إلى زراعة مستدامة، بل استُنزفت في شراء السلم الاجتماعي، وتمويل منظومة بيروقراطية متضخمة، وعندما اهتزت الأسعار العالمية وتراجعت القدرة على المناورة، ظهر العجز على حقيقته.

في هذا السياق، لم يكن غريبًا تسجيل خسائر بمئات الملايين من الجنيهات في صفقات ومشاريع غير مدروسة، تُدار بعقلية القطيع، حيث تُتخذ القرارات الكبرى بدافع الخوف من الانفجار الاجتماعي لا انطلاقًا من رؤية اقتصادية عقلانية. “تقنية القطيع” هنا ليست توصيفًا بلاغيًا، بل آلية حكم: دفع الناس إلى مسارات محددة، تضييق الخيارات، ثم تحميلهم مسؤولية الفشل.

لكن الأزمة لا تقف عند الاقتصاد. فاجتماعيًا، تعيش البلاد حالة قلق جماعي متصاعد. الإقصاء البنكي لا يعني فقط حرمانًا ماليًا، بل إقصاءً رمزيًا من المواطنة الحديثة. حين يُحرم المواطن من حساب بنكي، يُدفع تلقائيًا إلى الاقتصاد غير الرسمي، إلى الهشاشة، إلى الشعور بأن الدولة لا تراه إلا كرقم مزعج. وهنا تتآكل الثقة، وهي أخطر ما يمكن أن تخسره أي دولة.

أمنيًا، تعود قضايا العنف السياسي والاجتماعي إلى الواجهة، وفي مقدمتها ملف جمال بن إسماعيل، الذي تحوّل من جريمة مأساوية إلى مرآة تعكس اختلال العدالة، واستثمار الألم في الصراع السياسي. الاعترافات، التسريبات، وأجواء المحاكمات أعادت طرح سؤال جوهري: هل نحن أمام قضاء مستقل، أم أمام قضاء مُسخّر لتثبيت رواية رسمية واحدة، مهما كانت كلفتها الإنسانية؟

هذا السؤال يتقاطع مع ملفات أخرى، من بينها قضايا نشطاء وصحفيين وشخصيات سياسية، حيث يتداخل الأمني بالقضائي، ويتحول القانون إلى أداة ردع لا ضمانة حقوق. في مثل هذا المناخ، يصبح الخوف سياسة، ويُدار المجتمع بمنطق الرسائل القاسية لا بالتوافق.

على الصعيد الدبلوماسي، تحاول السلطة الجزائرية تقديم نفسها كطرف صلب في مواجهة الخارج، كما في ملف العلاقة مع فرنسا، أو ما يُسمى بـ“دبلوماسية الرهائن”. غير أن هذا الخطاب، مهما بدا جذابًا داخليًا، يخفي هشاشة موقع الجزائر الحقيقي. فالقوة الدبلوماسية لا تُبنى على المناكفات، بل على الاقتصاد القوي، والاستقرار الداخلي، والمصداقية المؤسساتية. وأي “انتصار” ظرفي في شدّ الحبال، يظل بلا معنى إذا كان الداخل يغلي.

في السياق نفسه، يبرز ملف الحركات المعارضة في الخارج، مثل حركة تقرير مصير القبائل، التي فقدت جزءًا من زخمها الدولي، لا بفعل قوة الدولة الجزائرية، بل نتيجة ارتباك استراتيجيات الجميع. السلطة من جهتها اختارت المقاربة الأمنية الصرفة، بدل معالجة الجذور السياسية والثقافية للأزمة، ما يجعل الصراع مؤجلًا لا منتهيًا.

المفارقة الكبرى أن النظام، وهو يضيّق الخناق على المجتمع، يواصل الحديث عن “الاستقرار” و“حماية الدولة”. غير أن الاستقرار الحقيقي لا يُقاس بعدد الاعتقالات ولا بإسكات الأصوات، بل بقدرة الدولة على إدماج مواطنيها اقتصاديًا، وضمان حقوقهم، وفتح أفق أمل قابل للتصديق.

الجزائر اليوم تقف عند مفترق طرق حاسم. إما الاستمرار في إدارة الأزمات بسياسات شعبوية قصيرة النفس، تُنتج مزيدًا من الإقصاء والغضب، أو الشروع في مراجعة جذرية لنموذج الحكم، تعترف بالأخطاء، وتعيد بناء العقد الاجتماعي على أسس الشفافية والمساءلة والتنمية الحقيقية.

ما يحدث ليس مجرد أزمة ظرفية، بل لحظة تاريخية تكشف حدود النظام الريعي، وعقم الشعبوية حين تُستعمل كبديل عن السياسة. والسؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح: هل تملك السلطة الجزائرية الشجاعة للانتقال من منطق السيطرة إلى منطق الدولة، أم أن البلاد ستظل رهينة حلقة مفرغة من الخوف، والقرارات المرتجلة، وتأجيل الانفجار؟

0 التعليقات: