في قلب التحوّلات الجيوسياسية والاقتصادية الكبرى، يتصدّر سباق الذكاء الاصطناعي بين الولايات المتحدة والصين مشهد التنافس العالمي، ليس بوصفه مجرّد سباق تكنولوجي، بل باعتباره رهانًا استراتيجيًا يعيد تشكيل موازين القوة، ويطرح أسئلة عميقة حول الجدوى والمخاطر وحدود السيطرة على المستقبل.
خلال العام الماضي، أنفقت كبرى شركات التكنولوجيا الأمريكية أكثر من 350 مليار دولار على البنية التحتية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، من مراكز بيانات عملاقة، ورقائق متقدمة، ونماذج لغوية فائقة التعقيد. هذا الرقم لا يعكس فقط حجم الطموح، بل يكشف عن قناعة راسخة داخل وادي السيليكون بأن الذكاء الاصطناعي هو العمود الفقري للاقتصاد القادم، وأن من يتأخر اليوم سيُقصى غدًا من مركز القيادة.
في المقابل، تتحرّك الصين بمنطق مختلف ولكن لا يقل حدة. فالدولة، بخلاف النموذج الأمريكي القائم على المبادرة الخاصة، تقود بنفسها هذا السباق عبر خطط وطنية طويلة المدى، ودعم مباشر للشركات، وربط الذكاء الاصطناعي بالأمن القومي، والصناعة العسكرية، والإدارة الذكية للمدن. بكين لا تراهن فقط على التفوق التجاري، بل تسعى إلى تقليص الفجوة الاستراتيجية مع واشنطن، بل وتجاوزها في بعض المجالات الحساسة.
غير أن هذا السباق المحموم يثير سؤالًا جوهريًا: هل نحن أمام استثمار مُجدٍ أم مقامرة محفوفة بالمخاطر؟
من زاوية اقتصادية، تبدو الرهانات مغرية. الذكاء الاصطناعي يعد بإعادة تشكيل الإنتاج، وتحسين الكفاءة، وخلق أسواق جديدة في الصحة، والتعليم، والطاقة، والدفاع. لكن في العمق، تظهر مؤشرات مقلقة: تضخم الاستثمارات دون ضمان عائد سريع، استهلاك هائل للطاقة، احتكار متزايد للتكنولوجيا من طرف عدد محدود من الشركات، واتساع الفجوة الرقمية بين الدول.
أما على المستوى الجيوسياسي، فإن الذكاء الاصطناعي يتحول إلى سلاح غير تقليدي. فالتحكم في الخوارزميات، والبيانات، والرقائق المتقدمة، بات يعادل التحكم في النفط خلال القرن العشرين. لذلك نشهد حروبًا خفية: عقوبات، قيود على تصدير الشرائح، سباقًا على استقطاب العقول، وتنافسًا محمومًا على وضع المعايير الأخلاقية والتقنية عالميًا.
لكن الخطر الأكبر قد لا يكون اقتصاديًا أو عسكريًا فقط، بل حضاريًا وأخلاقيًا. فالسباق بين القوتين العظميين يجري بسرعة تفوق قدرة المجتمعات على النقاش والتشريع. من يضمن ألا تتحول هذه النماذج الذكية إلى أدوات للرقابة الشاملة؟ من يضع حدود استخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب، أو في التلاعب بالرأي العام، أو في إعادة هندسة الإنسان نفسه؟
في النهاية، لا يبدو أن الولايات المتحدة أو الصين مستعدتان للتراجع. السباق مستمر، والاستثمارات تتصاعد، والمخاطر تتراكم. وبين من يرى في الذكاء الاصطناعي قاطرة خلاص اقتصادي، ومن يراه قنبلة زمنية مؤجلة، يبقى العالم كله ـ وليس فقط واشنطن وبكين ـ طرفًا غير معلن في هذا الرهان التاريخي، الذي قد يحدد شكل السلطة والمعرفة والحرية في القرن الحادي والعشرين.








0 التعليقات:
إرسال تعليق