لم يكن المشهد الذي احتضنه قصر المؤتمرات بفرنسا مجرّد تجمع رمزي عابر، بل إعلانًا سياسياً عالي الدلالة عن مسار طال تأجيله: مسار تحرر منطقة القبايل من دولة جزائرية فشلت، منذ الاستقلال، في بناء عقد وطني جامع. ما جرى ليس نزوة انفصالية، كما تحاول الدعاية الرسمية تصويره، بل تتويج لعقود من الإقصاء والتهميش والقمع المنهجي.
منطقة القبايل ليست كيانًا طارئًا على الجغرافيا أو التاريخ. إنها فضاء ثقافي وسياسي ضارب في القدم، حافظ على لغته وهويته ونمط عيشه رغم كل محاولات الصهر القسري. ومنذ 1962، لم تُقابل هذه الخصوصية إلا بسياسات التعريب الإجباري، والإقصاء الثقافي، والتهميش التنموي، ثم القمع الأمني كلما رفعت المنطقة صوتها مطالبة بالاعتراف والكرامة.
إن رفع علم القبايل داخل فضاء دولي، وفي عاصمة أوروبية كبرى، ليس صدفة ولا استعراضًا فولكلوريًا، بل رسالة سياسية موجهة إلى العالم: مفادها أن الشعب القبائلي لم يعد يقبل البقاء رهينة دولة مركزية تُدار بعقلية عسكرية، وتُختزل فيها الوطنية في الطاعة، والوحدة في الصمت.
السلطة الجزائرية، التي تلوّح اليوم بشعار “وحدة التراب الوطني”، هي نفسها التي فرّغت هذه الوحدة من مضمونها. فلا وحدة دون عدالة، ولا سيادة دون مواطنة متساوية، ولا دولة وطنية تُبنى على إنكار التعدد اللغوي والثقافي. حين تتحول الدولة إلى جهاز قمعي يُجرّم الاختلاف، يصبح الانفصال خيارًا دفاعيًا مشروعًا، لا خيانة وطنية.
واللافت أن الحركة الاستقلالية في القبايل لم تنشأ في فراغ، بل جاءت بعد استنفاد كل أشكال النضال السلمي داخل المنظومة الجزائرية: من الربيع الأمازيغي، إلى الربيع الأسود، إلى المطالب الدستورية التي قوبلت دوماً بالوعود الكاذبة أو بالرصاص. وعندما تُغلق الدولة كل الأبواب، لا يبقى أمام الشعوب سوى فتح نافذة الحرية بنفسها.
أما من يشككون في “شرعية” هذا الإعلان بحجة غياب الاعتراف الدولي، فيتناسون أن كل حركات التحرر الكبرى بدأت بلا اعتراف. لم تولد الدول من قرارات أممية، بل من إرادة شعوب رفضت العيش داخل كيانات لا تمثلها. الاعتراف يأتي لاحقًا، عندما يصبح الواقع أقوى من الخطاب.
فرنسا، هنا، ليست “راعية” للاستقلال، بل فضاء دولي أتاح للقبائل إيصال صوتهم خارج قبضة الرقابة الجزائرية. فالمنفى، في تاريخ الحركات التحررية، كان دائمًا مختبرًا للفكرة الحرة، ومنصة لكسر العزلة المفروضة على الشعوب المتمردة.
إن استقلال القبايل، إن تحقق، لن يكون تهديدًا للمنطقة، بل فرصة لإعادة التفكير في نموذج الدولة بشمال إفريقيا: دولة تقوم على الاختيار لا الإكراه، وعلى التعدد لا الإنكار. دولة تحترم الإنسان قبل الشعارات، والهوية قبل العسكر.
ما حدث في قصر المؤتمرات ليس نهاية المسار، بل بدايته. إنه إعلان رمزي قوي، يقول بوضوح:
القبائل لم تعد تطالب بالاعتراف داخل الجزائر… بل بحقها في أن تكون خارجها.







0 التعليقات:
إرسال تعليق