الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الخميس، ديسمبر 18، 2025

أسفي: سيرةُ ماءٍ يَتذكَّرُ: عبده حقي

 


أَنَا أَسْفِي، أَوْ مَا تَبَقَّى مِنِ اسْمٍ بَعْدَ أَنْ شَرِبَتْهُ الْمِيَاهُ. أَسْتَيْقِظُ فِي جَسَدِ مَدِينَةٍ تَغْرَقُ وَلا تَمُوتُ، تَفِيضُ كَجُرْحٍ يَتَذَكَّرُ أَنَّهُ جُرْحٌ. أَمْشِي فِي شَوَارِعَ لَمْ تَعُدْ تَعْرِفُ الْأَرْضَ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَسْمَعُ الْمَطَرَ يُفَكِّرُ بَصَوْتٍ عَالٍ.

الْمَاءُ لَا يَسْقُطُ، بَلْ يَصْعَدُ مِنْ أَحْذِيَتِنَا، مِنْ رُكْبَتَيْ الطُّفُولَةِ، مِنْ صُدُورِ الْأُمَّهَاتِ الَّلَاتِي نَسِينَ أَسْمَاءَهُنَّ فِي الدُّعَاءِ. أَقُولُ لِلْمَاءِ: تَمَهَّلْ، فَنَحْنُ نُرَتِّبُ ذَاكِرَتَنَا، فَيَرُدُّ عَلَيَّ بِفَيَضٍ أَكْبَرَ.

رَأَيْتُ الْبُيُوتَ تَتَحَوَّلُ إِلَى أَسْئِلَةٍ، وَالنَّوَافِذَ إِلَى أَعْيُنٍ مَفْتُوحَةٍ عَلَى الْفَقْدِ، وَالْأَبْوَابَ إِلَى أَفْوَاهٍ تَطْلُبُ اسْمَ اللَّهِ. كَانَ الْمَاءُ يَدْخُلُ دُونَ طَرْقٍ، كَأَنَّهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ، وَكُنَّا نَحْنُ ضُيُوفًا فِي أَسِرَّتِنَا.

أَنَا الَّذِي كَانَ يَظُنُّ الْفَيَضَانَ مَشْهَدًا، فَصَارَ الْفَيَضَانُ مِرْآةً. أَرَى وَجْهِي مُنْقَسِمًا بَيْنَ ضِفَّتَيْنِ، وَأَرَى أَبِي يَعْبُرُ الْمَاءِ حَامِلًا صَوْتَهُ فِي جَيْبِهِ، كَأَنَّهُ يَخَافُ أَنْ يَغْرَقَ.

فِي أَسْفِي، يَتَذَكَّرُ الْمِلْحُ أَنَّهُ دَمْعٌ، وَيَتَذَكَّرُ الْبَحْرُ أَنَّهُ شَاهِدٌ قَدِيمٌ. الْمَوْجُ يَتَقَدَّمُ خُطْوَةً، ثُمَّ يَتَرَاجَعُ خَجِلًا، كَأَنَّهُ يَعْتَذِرُ عَمَّا فَعَلَ الْمَطَرُ بِأَخِيهِ الْبَرِّيِّ.

كُلَّمَا فَاضَ الْوَادِي، فَاضَتِ الْجُمَلُ فِي رَأْسِي، وَانْكَسَرَ النَّحْوُ، وَهَرَبَ الْمَعْنَى مِنْ مَكَانِهِ. أَكْتُبُ لِأُجَفِّفَ الْمِيَاهَ، فَتُفَاجِئُنِي الْكَلِمَاتُ بِمُدُنٍ أُخْرَى تَغْرَقُ فِي الدَّاخِلِ.

اللَّيْلُ فِي أَسْفِي لَيْسَ لَيْلًا، بَلْ بَطْنُ سَحَابَةٍ. نَنَامُ وَنَحْلُمُ بِأَنْ نَسْتَيْقِظَ جَافِّينَ، وَنَسْتَيْقِظُ لِنَجِدَ الْحُلْمَ يَسْبَحُ فِي الصَّالُونِ. الْخَوْفُ يَضَعُ كُرْسِيًّا وَيَجْلِسُ مَعَنَا.

أَنَا لَسْتُ نَاجِيًا، أَنَا مُؤَجَّلُ الْغَرَقِ. أَحْمِلُ الْمَدِينَةَ فِي حَلْقِي، وَأَتَنَفَّسُ بِصُعُوبَةٍ، كَأَنَّ الْهَوَاءَ تَعَلَّمَ السِّبَاحَ وَنَسِيَ الطَّيَرَانَ.

وَمَعَ ذٰلِكَ، نَتَقَاسَمُ الْخُبْزَ وَالضَّوْءَ وَالشَّايَ، كَأَنَّ الْفَيَضَانَ دَرْسٌ فِي الْأُخُوَّةِ. الْأَيْدِي تَتَعَارَفُ فِي الظَّلَامِ، وَالْقُلُوبُ تُضِيءُ مَا عَجَزَتِ الْمَصَابِيحُ عَنْ إِضَاءَتِهِ.

عِنْدَمَا يَنْسَحِبُ الْمَاءُ، لَا يَرْحَلُ كُلُّهُ. يَبْقَى شَيْءٌ فِي الْجُدْرَانِ، فِي الْعِظَامِ، فِي الْكَلِمَاتِ. يَبْقَى كَأَثَرِ حُلْمٍ لَمْ يُكْمِلْ جُمْلَتَهُ.

أَنَا أَجْمَعُ الطِّينَ مِنْ لُغَتِي، وَأُعِيدُ بِنَاءَ جُمْلَةٍ تُشْبِهُ الْبَيْتَ، لَهَا سَقْفٌ مِنْ أَمَلٍ وَنَافِذَةٌ عَلَى غَدٍ أَقَلَّ بَلَلًا. أُسَمِّي هٰذَا الْفِعْلَ: حَيَاةً.

فِي أَسْفِي، نَتَعَلَّمُ أَنْ نَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، لَا كَمُعْجِزَةٍ، بَلْ كَضَرُورَةٍ. نَتَعَلَّمُ أَنْ نَكْتُبَ أَسْمَاءَنَا بِطِينٍ سَيَجِفُّ، لٰكِنَّهُ سَيَتَذَكَّرُنَا.

أَنَا هُنَا، أَقُولُ: لَمْ نَغْرَقْ كُلِّيًّا. بَقِيَ مِنَّا صَوْتٌ، وَبَقِيَ مِنَ الْمَدِينَةِ قَلْبٌ يَخْفِقُ تَحْتَ الْمَاءِ. وَهٰذَا كَافٍ لِنُكْمِلَ الْقَصِيدَةَ… وَلِنُكْمِلَ الْحَيَاةَ.


0 التعليقات: