الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الخميس، ديسمبر 18، 2025

قراءة في كتاب «الواقعية الرأسمالية» لمارك فيشر: عبده حقي

 


ليس من السهل أن نقرأ كتاب «الواقعية الرأسمالية» لمارك فيشر دون أن نشعر بأن الكاتب لا يصف نظامًا اقتصاديًا بقدر ما يصف حالة نفسية عامة، مزاجًا كونيًا، أو ما يشبه هواءً غير مرئي نتنفّسه جميعًا. فيشر لا يكتب عن الرأسمالية باعتبارها منظومة إنتاج فقط، بل كأفق تخيّلي مغلق، كحدّ أقصى لما يمكن التفكير فيه، حتى عندما نحاول التمرّد عليها.

الفكرة المركزية التي ينطلق منها الكتاب بسيطة في ظاهرها، مربكة في عمقها: أصبح من الأسهل تخيّل نهاية العالم من تخيّل نهاية الرأسمالية. ليست الجملة شعارًا، بل تشخيصًا دقيقًا لانسداد الخيال السياسي في زمننا. فالواقعية الرأسمالية، كما يراها فيشر، ليست إقناعًا مباشرًا، بل تطبيعًا طويل الأمد، جعل النظام يبدو طبيعيًا، أبديًا، بل و”واقعيًا” إلى درجة أن التفكير في بديل يُتهم بالسذاجة.

يمتاز فيشر بأسلوب لا يشبه أدبيات الاقتصاد ولا تنظيرات اليسار الكلاسيكي. يكتب عن المدرسة، عن الاكتئاب، عن الثقافة الشعبية، عن السينما والموسيقى، وكأنه يقول لنا إن الرأسمالية لم تعد تسكن المصانع والبورصات فقط، بل استقرّت في العقول، في القلق الفردي، وفي الإحساس الدائم بالفشل الشخصي. فالاكتئاب، في هذا السياق، ليس حالة نفسية فردية فحسب، بل أثرٌ جانبي لنظام يُحمّل الفرد وحده مسؤولية نجاته.

من أكثر فصول الكتاب إزعاجًا – بالمعنى الإيجابي – ذلك الذي يتناول فيه فيشر تحوّل المؤسسات التعليمية إلى فضاءات إدارية فارغة من المعنى. الطالب زبون، والمعرفة خدمة، والتقييم أرقام بلا روح. هنا لا يصرخ الكاتب، بل يهمس، لكن الهمس أشد وقعًا، لأنه يشبه ما نراه كل يوم دون أن نملك لغة لوصفه.

لا يدّعي فيشر أنه يملك وصفة جاهزة للخلاص. بل إن أحد عناصر قوة الكتاب يكمن في هذا التواضع الفكري. هو لا يبيع أملًا سريعًا، ولا يعد بثورة قريبة، بل يفتح شقوقًا صغيرة في الجدار، ويذكّرنا بأن ما يبدو واقعيًا ليس بالضرورة حتميًا. الواقعية الرأسمالية، في النهاية، ليست قانونًا طبيعيًا، بل بناء تاريخي، وما بُني يمكن تفكيكه، ولو ببطء.

«الواقعية الرأسمالية» كتاب قصير نسبيًا، لكنه كثيف، يترك أثره بعد إغلاق صفحته الأخيرة. إنه ليس بيانًا سياسيًا، بل مرآة غير مريحة، نرى فيها كيف صرنا نبرّر ما يؤذينا، ونشكّ في أي حلم لا يحمل ختم السوق. وربما تكمن أهميته في هذا بالضبط: أنه يعيد إلينا حق السؤال، لا حق الجواب.

0 التعليقات: