لم يكن الفوز حدثًا رياضيًا بقدر ما كان اهتزازا عظيما في نظام الواقع. في تلك الليلة، بدا الزمن وكأنه فقد قدرته على العدّ، فتداخلت الدقائق بالقرون، واختلط العشب الأخضر بطبقات دفينة من الرمل والملح والذاكرة. لم تكن الدوحة مدينة تستضيف مباراة نهائية بين المملكتين المغربية والأردنية، بل فضاءً عائمًا تُعاد فيه كتابة معنى الوصول والأصول، كأن الملعب خريطة سرّية لا تُقرأ بالعين، بل بما تبقّى من الإحساس.
تحرّكت الكرة كما لو
كانت تعرف أكثر مما ينبغي. لم تكن تبحث عن المرمى، بل عن فرح قديم لتفجره. كانت تمرّ
بين الأقدام مثل فكرة محرّمة صارت فجأة ممكنة. كل تمريرة بدت كأنها تعبر طبقة زمنية
أخرى: من أسوار المدن العتيقة، إلى طرق القوافل، إلى بيوت الطين التي تعلّمت الصبر
قبل أن تتعلّم الكلام. اللاعبون المغاربة لم يكونوا أفرادًا، بل أبطالا وظلالًا متجاورة
لكيان واحد، جسد طويل تشكّل من الانتظار.
كان التوجس حاضرًا،
لكنه وقف في الخلف، متردّدًا، يرتدي أقنعة الهزائم السابقة. حاول التذكير بالماضي،
بالإخفاقات التي قيل يومًا إنها قدر، لكن الحاضر كان أقوى. كان هناك اتفاق غير معلن
على أن الذاكرة، مهما ثقلت، لا تملك حق الإمساك بالقدم وهي تركض. الركض لم يكن نحو
المرمى، بل بعيدًا عن فكرة الانكسار ذاتها.
وحين جاء الهدف
الأول من بعيد أبعد من الحلم ، لم يحدث كصاعقة، بل كفتحٍ بطيء لبابٍ ظلّ مغلقًا طويلًا.
لم تهتزّ الشباك وحدها، اهتزّ سردٌ كامل كان يكتب الحكاية من زاوية ضيّقة. في المدرجات،
كبر الأطفال دفعة واحدة، لا لأنهم فهموا قواعد اللعبة، بل لأنهم رأوا الاحتمال يتحرّك
بلا خوف. في البيوت البعيدة، ابتسمت وجوه اعتادت متابعة الأخبار لا الأحلام، كأن التعب
قرر، للحظة نادرة، أن يضع رأسه جانبًا.
في تلك اللحظة، بدا
أن أصواتًا غير مرئية تشارك في التصفيق والهتافات. خطوات من غابوا وهم يعتقدون أن الفرح
مؤجَّل إلى أجل غير مسمّى. لم تكن الأصوات عالية، بل عميقة، تشبه الصمت حين يصبح مفهومًا.
السماء نفسها بدت أقلّ ارتفاعًا، أقرب إلى الأرض، كأنها تنصت لما يجري على العشب .
الكأس لم تكن معدنًا
يُرفع، بل علامة ترقيم في جملة طويلة. فاصلة تتيح للحكاية أن تستمر من دون انقطاع.
لم تحمل ثقلًا، لأن ما كان أثقل قد سقط: ذلك الشك المزمن في الاستحقاق. في تلك الليلة،
أُعيد ترتيب الجملة الجماعية، وُضع الفاعل في مكانه الصحيح، وتراجعت الأعذار إلى الهامش.
العرب كانوا هناك كظلّ
واحد، لا كخرائط متجاورة. لبرهة قصيرة، اختفت الحواف الحادّة، وبقي الصوت المشترك،
النشيد حين يُغنّى بلا حسابات عابرة. لم يكن الانتصار على خصم، بل على التشتّت
والانشقاق، على الإحساس بأن الفرح يحتاج إلى تصريح. تبيّن أن الفرح، حين يكون صادقًا،
يدخل من دون طرق الباب.
وعندما انتهت المباراة،
لم تنتهِ الليلة. تسلّلت إلى الشوارع، إلى المقاهي، إلى النوافذ التي فُتحت على غير
عادة. الكأس لم تذهب إلى المتحف، لأن المتاحف تحفظ ما اكتمل. هذه كانت حيّة أكثر من
اللازم، أرادت أن تُنسى قليلًا كي تبقى. أرادت أن تتحوّل إلى حكاية تُروى لا إلى شيء
يُعلَّق.
هكذا بدا الفوز: شقّ
صغير في جدار سميك، تسلّل منه النور والهواء معا. ومن ذلك الشق، خرج اسمٌ كُتب أخيرًا
بوضوح، لا كادّعاء ولا كشعار، بل كحقيقة هادئة: المغرب، حين ينتصر، لا يعلن النهاية،
بل يفتح بوابة البداية.








0 التعليقات:
إرسال تعليق