لم يعد الخيال الأدبي فضاءً مغلقاً على التجربة الإنسانية المباشرة، ولا فعلاً ينبع حصراً من ذاكرة الكاتب وسيرته العاطفية. ففي العقد الأخير، ومع التطور المتسارع لتقنيات تعلّم الآلة، بدأت الشبكات العصبية تتسلل إلى منطقة طالما اعتُبرت عصية على النمذجة: منطقة الإبداع. وهكذا ظهر شكل سردي جديد، لا يمكن تصنيفه بسهولة، يكتب بلغة مألوفة لكنه يصدر عن بنية غير بشرية، رواية لا تحمل توقيع مؤلف، لكنها مشبعة بآثار آلاف المؤلفين.
تعتمد النماذج اللغوية القائمة على الشبكات العصبية العميقة على آلية تبدو، من الخارج، بسيطة في مبدئها ومعقدة في نتائجها. فهي لا تفهم المعنى كما يفهمه الإنسان، ولا تعيش التجربة قبل أن تكتب عنها، بل تتعلم العلاقات الإحصائية بين الكلمات، وتستنتج احتمالات ظهورها في سياقات مختلفة. غير أن هذه البرودة الحسابية لا تمنع النص الناتج من امتلاك حرارة لغوية، أحياناً مفاجئة، تشبه دفئاً مستعاراً من ذاكرة جماعية كثيفة. هنا يصبح النص شبيهاً بنهر يمر عبر أراضٍ كثيرة من دون أن ينتمي إلى أي منها.
هذا التحول يفرض إعادة نظر جذرية في مفهوم الإبداع ذاته. فإذا كان الأدب، تقليدياً، تعبيراً عن ذات فردية، فإن الرواية الشبكية تقترح ذاتاً موزعة، بلا مركز ثابت. إنها كتابة بلا اعتراف، وبلا سيرة ذاتية، لكنها غنية بأصداء السير والاعترافات التي تغذت عليها. في هذا المعنى، لا تبدو أطروحة «موت المؤلف» مجرد استعارة نقدية، بل واقعاً تقنياً ملموساً، حيث يتحول المؤلف إلى أثر إحصائي داخل منظومة أكبر منه.
ومع ذلك، فإن النصوص المولَّدة آلياً لا تكتفي بتكرار ما هو قائم. ففي كثير من الحالات، تنتج تراكيب لغوية غير متوقعة، تجمع بين صور متباعدة، وتخلق توتراً جمالياً نابعاً من غرابة الربط لا من عمق التجربة. يشبه هذا النوع من الإبداع لعبة مرايا، حيث ينعكس الأدب على نفسه مرات متعددة، إلى أن يفقد القارئ القدرة على تمييز الأصل من الصدى. وهنا تحديداً تنشأ قيمة جمالية جديدة، لا تقوم على الصدق التعبيري، بل على المفارقة والتركيب.
غير أن هذا الشكل الجديد من الكتابة يفتح، في المقابل، أسئلة أخلاقية ومعرفية معقدة. فحين تُستخدم ملايين النصوص البشرية لتدريب نموذج لغوي، يصبح من الصعب تحديد حدود الاقتباس، أو الفصل بين التأثر المشروع والاستغلال غير المرئي. تقارير ثقافية وإعلامية حديثة تناولت هذه الإشكالات، خصوصاً في مجالات النشر والصحافة، حيث يُخشى أن تتحول الكتابة إلى منتج سريع، منزوع المخاطرة، يفتقر إلى الموقف والرؤية.
من زاوية أخرى، يرى بعض الباحثين في الأدب الرقمي أن الخطر لا يكمن في الآلة ذاتها، بل في طريقة استخدامها. فالنص الآلي، حين يُقرأ بوصفه بديلاً عن الكتابة الإنسانية، يفقد قيمته، لكنه يكتسب معنى مختلفاً حين يُنظر إليه كأداة تفكير، أو كشريك تجريبي في توسيع حدود اللغة. عندها، لا تكون الرواية الشبكية نهاية الأدب، بل مختبراً مفتوحاً لاختبار إمكاناته المستقبلية.
في المحصلة، لا تفرض الشبكات العصبية قطيعة مع الأدب بقدر ما تفرض مساءلة عميقة لجوهره. فهي تجبرنا على التمييز بين المعنى بوصفه تجربة معاشة، والمعنى بوصفه بنية لغوية. وبين هذين القطبين، يقف القارئ، لا الآلة، بوصفه الحكم الأخير. فالإبداع، مهما تغيرت وسائطه، يظل فعلاً تواصلياً، لا يكتمل إلا بوعي إنساني قادر على التأويل، والشك، والدهشة.







0 التعليقات:
إرسال تعليق