الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الاثنين، ديسمبر 22، 2025

مِنَ الرَّباطِ إِلى العالَمِ… نَبْضٌ يَتَسارَعُ وَمَعانٍ تَتَغَيَّرُ: عبده حقي

 


يَبْدُو أَنَّ الثَّقافَةَ لَمْ تَعُدْ «قِطاعًا» مُنْفَصِلًا عَنِ الرَّقْمَنَةِ وَالإِعْلامِ، بَلْ صَارَتْ تُشْبِهُ نَهْرًا يَجْرِي فِي أَكْثَرَ مِنْ مَجْرًى: فَنٌّ يَتَحَرَّكُ فِي المُدُنِ، وَمِنَصّاتٌ تُعيدُ تَشْكِيلَ المِهْنَةِ، وَأَدَبٌ يَتَغَذّى مِنَ الشَّاشَةِ بِنَفَسٍ جَديدٍ. وَبَيْنَما تَتَزاحَمُ العَناوينُ، تَظَلُّ الفِكْرَةُ الأَسَاسِيَّةُ واحِدَةً: هُناكَ سُؤالٌ مُلِحٌّ عَنْ مَنْ يَقودُ السَّرْدَ الآنَ… الإِنْسانُ أَمِ الخَوارِزْمِيَّةُ؟

فِي المَغْرِبِ، ظَلَّتِ الحَياةُ الثَّقافِيَّةُ تَتَغَذّى مِنَ «المَواعيدِ» الَّتِي تَجْعَلُ المُدُنَ تُصْغي لِنَفْسِها. فَقَدْ عَرَفَتْ سِطّاتُ اِنْطِلاقَ الدَّوْرَةِ الحادِيَةِ وَالعِشْرِينَ لِلْمَهْرَجانِ الدُّوَلِيِّ لِلْفُنُونِ التَّشْكِيلِيَّةِ، فِي اِحْتِفاءٍ يَرْفَعُ شِعارَ خَمْسينَ سَنَةً… وَيَسْتَدْعِي ذاكِرَةَ الأَلْوانِ كَأَنَّها وَثِيقَةٌ بَصَرِيَّةٌ تُقاوِمُ النِّسْيانَ. وَفِي زاكورَةَ، يَتَواصَلُ نَبْضُ الحِكايَةِ بِمَهْرَجانٍ دُوَلِيٍّ لِلْحَكايَةِ (٢١–٢٤ دُجَنْبِر)، كَأَنَّ الرِّوايَةَ الشَّفَوِيَّةَ تُعانِدُ سُرْعَةَ الخَبَرِ وَتُثْبِتُ أَنَّ المُتْعَةَ لَيْسَتْ دَائِمًا فِي العاجِلِ، بَلْ فِي التَّأَمُّلِ وَالإِصْغاءِ. وَفِي الدَّارِ البَيْضاءِ، لَمْ يَغِبِ الطَّرَبُ وَالصَّوْتُ عَنْ المَشْهَدِ، إِذْ سَجَّلَتِ التَّظاهُراتُ الفَنِّيَّةُ لَحَظاتٍ جَماهيريَّةً تُعيدُ وَصْلَ المُوسِيقَى بِالْمَدِينَةِ وَشَغَفِ الجُمْهورِ.

وَإِذا كانَتِ الثَّقافَةُ فِي المَغْرِبِ تَتَحَرَّكُ بِإِيقاعِ المَهْرَجانِ وَالمَدِينَةِ، فَإِنَّ المَشْهَدَ العَرَبِيَّ فِي آخِرِ ساعَاتِهِ كَشَفَ عَنْ طاقَةٍ أُخْرَى: طاقَةُ الجَوائِزِ وَالقَوائِمِ وَمَعْناهَا الرَّمْزِيِّ. فِي مِصْرَ، جرى إِعْلانُ القَوائِمِ القَصيرَةِ لِجائِزَةِ ساوِيرِسِ الثَّقافِيَّةِ، بِمَا يَحْمِلُهُ ذلِكَ مِنْ مُؤَشِّرٍ عَلى أَنَّ السَّرْدَ لا يَزالُ يَبْحَثُ عَنْ وُجُوهٍ جَديدَةٍ وَطُرُقٍ جَديدَةٍ لِقِراءَةِ الواقِعِ. وَهُنا يَتَحَوَّلُ الخَبَرُ الثَّقافِيُّ إِلى بَوْصَلَةٍ: مَنْ يَتَصَدَّرُ القائِمَةَ اليَوْمَ، يَكْتُبُ جُزْءًا مِنْ ذائقَةِ الغَدِ.

أَمّا فِي إِفْريقِيا، فَتَحْضُرُ الفُنُونُ أَيْضًا بِوَجْهٍ مُعاصِرٍ لا يَقْطَعُ مَعَ التُّراثِ، بَلْ يَسْتَخْرِجُهُ مِنْ مادَّتِهِ لِيَصُوغَ مُسْتَقْبَلًا. مِثالُ ذلِكَ مَعْرِضُ «التَّصْميمِ فِي غَرْبِ إِفْريقِيا» فِي قَصْرِ لُومِي بِالتّوغو، الَّذِي يَجْمَعُ أَصْواتًا تَصْميمِيَّةً مِنَ المِنْطَقَةِ وَيَقْتَرِحُ «وَحْدَةً فِي التَّعَدُّدِ»: حِرَفٌ، وَمَوادٌّ مُعادُ تَوْظيفِها، وَجَمالِيّاتٌ تُخاطِبُ الهُوِيَّةَ مِنْ دُونِ شِعاراتٍ جاهِزَةٍ. هُنا يَصيرُ المَعْرِضُ خَبَرًا ثَقافِيًّا، وَيَصيرُ الخَبَرُ سُؤالًا عَنْ حُقوقِ التَّمْثيلِ وَمَنْصّاتِ العَرْضِ وَحَرْكَةِ السُّوقِ الفَنِّيِّ.

وَفِي العالَمِ، يَظْهَرُ مَحْوَرٌ آخَرُ يَفْتَحُ أَبوابَ النِّقاشِ: الإِعْلامُ وَالتِّكْنولوجْيا وَالذَّكاءُ الاصْطِناعِيُّ. فِي آخِرِ السّاعَاتِ، أَطْلَقَتْ شَبَكَةُ الجَزيرَةِ نَموذَجًا تَكامُلِيًّا جَديدًا لِلذَّكاءِ الاصْطِناعِيِّ بِاِسْمِ «The Core»، فِي خُطْوَةٍ تُريدُ—حَسَبَ الإِعْلانِ—أَنْ تَنْقُلَ الذَّكاءَ الاصْطِناعِيَّ مِنْ أَداةٍ مُساعِدَةٍ إِلى «شَريكٍ» فِي عَمَلِيّاتِ جَمْعِ المَعْلومَةِ وَتَحْليلِها وَتَحْويلِها إِلى مُحْتَوى. وَفِي السِّياقِ نَفْسِهِ، تَكْتُبُ مُنَصّاتٌ بَحْثِيَّةٌ إِعْلامِيَّةٌ أَنَّ غُرَفَ الأَخْبارِ تَدْخُلُ مَرْحَلَةَ «إِعادَةِ تَصْميمٍ» داخِلِيٍّ: قاعِدَةُ مَعْرِفَةٍ، وَطَبَقاتُ اسْتِرْجاعٍ، وَوُجُوهاتُ مُحادَثَةٍ تَسْمَحُ لِلْقارِئِ أَنْ يَسْأَلَ الخَبَرَ لا أَنْ يَقْرَأَهُ فَقَطْ. وَفِي إِفْريقِيا أَيْضًا، تَتَوالى الإِشاراتُ إِلى سَباقِ «جاهِزِيَّةِ» الدُّوَلِ لِلذَّكاءِ الاصْطِناعِيِّ، بَيْنَ تَقارِيرَ تَصْنيفٍ وَنِقاشاتٍ عَنْ التَّنْظيمِ وَالْحَوْكَمَةِ وَحِمايَةِ المَجْتَمَعاتِ مِنْ تَأْثيراتِ التَّضْليلِ وَالِاسْتِقْطابِ.

هُنا يَأْتي السُّؤالُ الحَسّاسُ: أَيْنَ يَقِفُ الأَدَبُ الرَّقَمِيُّ مِنْ كُلِّ ذلِكَ؟ فِي الحَقِيقَةِ، فَإِنَّ الأَدَبَ الرَّقَمِيَّ لا يَحْضُرُ اليَوْمَ فِي صُورَةِ «إِصْدارٍ» واحِدٍ، بَلْ فِي صُورَةِ بِيئَةٍ تَتَشَكَّلُ: غُرَفُ أَخْبارٍ تُنْتِجُ قِصَصًا تَفاعُلِيَّةً، وَمُؤَسَّساتٌ تُشَجِّعُ أَشْكالَ الفَنِّ الجَديدِ (فِلْم/فِيديو/ميديا) بِمَواعيدِ تَقَدُّمٍ وَمُسابقاتٍ، وَفَضاءاتٌ تَخْتَبِرُ «السَّرْدَ» فِي وَسَطٍ مُتَغَيِّرٍ. وَإِذا كانَتِ الحِكايَةُ فِي زاكورَةَ تَعُودُ إِلى الصَّوْتِ وَالدَّوائِرِ الشَّعْبِيَّةِ، فَإِنَّ الحِكايَةَ فِي الفَضاءِ الرَّقَمِيِّ تَتَّخِذُ شَكْلًا آخَرَ: نَصٌّ يَتَنَفَّسُ مَعَ البَيانَاتِ، وَيَتَشَكَّلُ مَعَ الصُّورَةِ، وَيَتَغَيَّرُ بِحَسَبِ سُؤالِ المُتَلَقّي. كَأَنَّنا أَمامَ أَدَبٍ يُشْبِهُ مِرْآةً سائِلَةً: تَعْكِسُكَ… ثُمَّ تُعيدُ تَشْكِيلَكَ.

وَبَيْنَ الثَّقافَةِ وَالإِعْلامِ وَالأَدَبِ الرَّقَمِيِّ، يَتَكَرَّرُ دَرْسٌ واحِدٌ: الأَصْلُ لَيْسَ فِي كَثْرَةِ الأَدَواتِ، بَلْ فِي أَخْلاقِيّاتِ الاسْتِعْمالِ وَحِرْفِيَّةِ السَّرْدِ وَحَقِّ القارِئِ فِي مَعْلومَةٍ مَوْثوقَةٍ وَجَمالٍ لا يُزَيَّفُ. وَكَما تَحْمي المُدُنُ أَسْوارَها بِالفَنِّ، تَحْمي المِهَنُ مِهْنَتَها بِالمِعْيارِ.


0 التعليقات: