الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الجمعة، أكتوبر 31، 2025

محاورات بين فلاسفة ومفكرين معاصرين (18) حوار الشك والعقل: ديفيد هيوم : عبده حقي

 


المقدمة: 
في أواخر القرن الثامن عشر، ومع تصاعد موجة التنوير التي أعادت تعريف علاقة الإنسان بالعقل والطبيعة، برز الفيلسوف الإسكتلندي ديفيد هيوم كأحد أكثر المفكرين جرأة في مساءلة الأسس الميتافيزيقية التي قام عليها الإيمان الديني التقليدي. ففي مؤلفه "حوارات في الدين الطبيعي" (1779)، لا يقدّم هيوم أطروحة إلحادية مباشرة، بل يختار أسلوب الحوار الفلسفي الذي تتقاطع فيه أصوات متعددة تمثل تنوّع المواقف الفكرية في عصره. من خلال هذا الحوار، يقيم هيوم محكمة للعقل البشري في مواجهة فكرة الإله، فيختبر صلاحية البراهين الكلاسيكية على وجود الله، ويعيد صياغة مفهوم الدين ضمن أفق نقدي تجريبي جديد.

المقال:
يُعدّ كتاب "حوارات في الدين الطبيعي" من أهم النصوص الفلسفية التي أعادت التفكير في العلاقة بين العقل والإيمان. اختار هيوم أن يُجسّد النقاش عبر ثلاثة شخصيات رمزية: كلينثيس، ممثّل المذهب العقلي الطبيعي المدافع عن البرهان الغائي؛ ديميّا، اللاهوتي التقليدي الذي يستند إلى العقيدة والوحي؛ وفيلو، الصوت الشكي الذي يجسّد آراء هيوم نفسه في الغالب. هذا الشكل الحواري ليس مجرد وسيلة بلاغية، بل هو أداة لتفكيك السلطة الأحادية للحقيقة الدينية وفتح أفق النقاش أمام التعدد والتجريب والشك.

يبدأ الحوار من سؤال كلاسيكي: هل يمكن للعقل البشري أن يبرهن على وجود الله انطلاقاً من ملاحظة النظام في الكون؟
يرى كلينثيس أن النظام والتناسق في الطبيعة دليل على وجود مصمّم حكيم، تماماً كما نستدل على صانع الساعة من دقة أجزائها. هذا هو البرهان الغائي الذي ساد الفلسفة الأوروبية منذ توما الأكويني إلى نيوتن. غير أنّ فيلو يردّ عليه بسلسلة من الأسئلة المزعزعة: إذا كان الكون يشبه آلة، فهل نعرف فعلاً طبيعة الصانع أو عددهم أو غاياتهم؟ ألا يمكن أن يكون هذا النظام نتيجة تطور أو تكرار تجارب طبيعية غير واعية؟ بهذا المنطق، يقوّض هيوم فكرة التشبيه بين الطبيعة والعمل الإنساني، مبرزاً حدود العقل الاستقرائي الذي يبني الميتافيزيقا على أساس التجربة.

أما ديميّا، فيرفض هذا المنهج التجريبي، معتبراً أن الله فوق كل إدراك، وأن محاولة معرفة جوهره بالعقل إثم معرفي. يردّ عليه فيلو قائلاً إنّ هذا التسليم بالعجز لا يقود إلى الإيمان، بل إلى الغموض والجمود العقلي. في هذا التبادل، يتجلّى توازن هيوم بين الشك والتواضع المعرفي: فالعقل، وإن كان عاجزاً عن كشف حقيقة المبدأ الكلي، يظل قادراً على نقد الأوهام التي يدّعيها اللاهوت.

الجدل بين الثلاثة يفتح الباب أمام واحدة من أعمق القضايا في فلسفة الدين: هل الإيمان نتيجة العقل أم الحاجة؟
هيوم يلمّح إلى أن جذور الإيمان ليست فكرية بل نفسية واجتماعية، تنبع من الخوف من المجهول ومن نزعة الإنسان إلى إسقاط نَظمه الداخلية على الكون. في هذا السياق، يسبق هيوم علم النفس الديني الحديث، حين يعتبر أنّ فكرة الله ليست سوى انعكاس لرغبة الإنسان في النظام والمعنى، أكثر مما هي اكتشاف موضوعي لحقيقة ميتافيزيقية.

كما يتناول الحوار مسألة الشرّ في العالم، وهو من أعقد الاعتراضات على فكرة الإله الكامل القدرة والخير. إذا كان الله خيّراً مطلقاً، فلماذا يعاني الأبرياء؟ يجيب كلينثيس بأنّ النظام الكلي قد يكون مجهول الحكمة، بينما يرى فيلو أنّ الشرّ يفضح حدود الاستدلال العقلي على الكمال الإلهي. بهذا الطرح، يمهّد هيوم الطريق لانتقادات لاحقة تبناها فلاسفة مثل كانط وشوبنهاور حول معضلة الشر والمعاناة.

من الناحية المنهجية، لا يقدّم هيوم بديلاً جاهزاً أو عقيدة جديدة، بل يمارس نقداً إبستمولوجياً جذرياً للعقل الميتافيزيقي. فالحوار لا ينتهي بانتصار طرف على آخر، بل بتعليق الحكم، ما يعكس موقف هيوم التجريبي القائم على التريّث والاعتراف بحدود المعرفة البشرية. وهكذا يتحول النص إلى مختبر للعقل في مواجهة أعمق أسئلته، حيث لا يملك الإنسان سوى أن يوازن بين إيمانه وحيرته.

إنّ القيمة الفلسفية الكبرى لهيوم تكمن في تحريره للفكر الديني من سلطة اللاهوت الموروث. فهو لا ينكر وجود الله، بل يشكك في قدرة الإنسان على البرهنة عليه بالعقل وحده. من هنا، يصبح الدين عنده ظاهرة إنسانية قابلة للفهم والتحليل، لا مجرد وحي معصوم. هذه الرؤية مهّدت لاحقاً لولادة فلسفات الوضعية والتجريبية العلمية، التي ستفصل بين ميدان الإيمان وميدان المعرفة.

على الصعيد الثقافي، يُظهر الحوار كيف كان القرن الثامن عشر مختبراً للتحوّل من الإيمان الغيبي إلى إيمان العقل الطبيعي، حيث يُعاد تأويل الله كرمز للنظام الكوني لا كإله شخصي متدخل. ومع ذلك، يحتفظ النص بعمق إنساني واضح: فكلينثيس وفيلو وديميّا ليسوا خصوماً بل باحثون عن المعنى، يجسدون صراع الإنسان بين الحاجة إلى الإيمان والرغبة في الفهم.

في ختام حوارات في الدين الطبيعي، لا يعلن هيوم انتصار الشك على الإيمان، بل يقدّم إمكاناً ثالثاً هو الحكمة التأملية، التي تعترف باللغز دون أن تستسلم له. هذا الموقف المتزن سيجعل منه أحد مؤسسي فلسفة الدين الحديثة، إذ فتح الباب أمام نقدٍ عقلاني للدين من داخل التجربة الإنسانية، لا من خارجها.

إنّ حوار هيوم ليس مجرد نقاش في الوجود الإلهي، بل هو مرآة لتاريخ الوعي الأوروبي وهو ينتقل من اليقين اللاهوتي إلى سؤال العقل الحر. وفي ذلك يكمن جوهر التنوير: أن يكون الإنسان شجاعاً بما يكفي ليمارس الشك، دون أن يفقد قدرته على الإعجاب بالعالم.


0 التعليقات: