إنَّ العمارة ليست مجرّد فنٍّ لبناء المباني، بل هي تجلٍّ ماديٌّ لوجود الإنسان نفسه. فكلّ بناءٍ نسكنه، وكلّ شارعٍ نعبره، وكلّ جدارٍ يفصلنا أو يجمعنا، يعكس الطريقة التي نفكّر بها في الكينونة والمعرفة والقيمة. ومن ثمّ، فإنّ فلسفة العمارة تسعى إلى فهم السبب الكامن وراء الفعل المعماري: لماذا يبني الإنسان؟ ولماذا يسكن؟ ولماذا يغيّر وجه الأرض ليصوغ منها فضاءاتٍ تعبّر عن داخله الوجودي؟
إنها تقف عند مفترق الطرق بين الأنطولوجيا والجمال والأخلاق والتكنولوجيا؛ حوارٌ صامت بين المادة والمعنى، بين الديمومة والزوال، بين التطلّع الإنساني وقوى الطبيعة.
العمارة كأنطولوجيا: السكن والوجود في العالم
بدأت الفلسفة تأمّلها في العمارة من زاوية الأنطولوجيا، أي سؤال الكينونة. ففي مقاله الشهير «البناء والسكن والتفكير» (1951)، يرى مارتن هايدغر أنّ البناء هو شكل من أشكال السكن، وأنّ السكن هو نمط من أنماط الوجود المليء بالمعنى داخل العالم. فالفعل المعماري، في جوهره، ليس استجابةً وظيفيةً لحاجةٍ إلى المأوى، بل هو فعلٌ شعريّ يكشف ماهيّة وجود الإنسان على الأرض.
فالجسر، أو البيت، أو المعبد، لا يملأ فراغًا هندسيًّا فحسب، بل يكشف عن الفضاء نفسه، ويُوجِدُ عالمًا يمكن للإنسان أن يجد فيه انتماءه وذاكرته واستقراره.
إنّ هذا الفهم الوجودي يجعل من العمارة وسيطًا ميتافيزيقيًّا بين الأرض والسماء، بين الآلهة والبشر. فالمعبد الإغريقي مثلًا لا يحيط بالإله، بل يجمع كونًا بأسره: الأرض أساسًا، والسماء انفتاحًا، والآلهة علوًّا، والبشر سكانًا لهذا البين. وقد ورث هذا التصوّر معماريون معاصرون مثل بيتر زومثور، الذي تجلّى ذلك في عمله حمامات فالس الحرارية في سويسرا، حيث يتحوّل الحجر والماء والضوء إلى عناصرٍ من تجربةٍ حسّيةٍ وروحيةٍ تجعل العمارة ذاتها شرطًا للسكينة والوجود.
غير أنّ هذا المنظور الوجودي يفضح كذلك مأزق الحداثة؛ فإذا كانت العمارة تكشف الوجود، فماذا يحدث حين تفرغ المباني من المعنى وتتحوّل إلى أدوات مضاربة مالية أو استعراض تكنولوجي؟ إنّ أبراج الزجاج الشاهقة، على بهائها، غالبًا ما تعبّر عن اغترابٍ أكثر مما تعبّر عن انتماء؛ إنها علامات على ما سمّاه هايدغر «اغتراب الإنسان الحديث عن المسكن». وهكذا تصبح مهمة العمارة الأنطولوجية مقاومة هذا الاغتراب وإعادة تجذير الإنسان في المكان من خلال شكلٍ يعبّر عن المعنى.
البعد الجمالي: الشكل والتجربة والجسد العائش
يقدّم البعد الجمالي الركيزة الثانية لفهم العمارة؛ فليست الجماليات هنا مجرّد تصميمٍ هندسي، بل فنٌّ للتجربة المعيشة. فقد اعتبر إيمانويل كانط، في نقد ملكة الحكم (1790)، العمارة واحدة من الفنون الجميلة لأنها تجمع بين المنفعة والجمال، إذ يجب أن تؤدي وظيفةً عمليةً وأن تُرضي الحسّ الجمالي في الوقت نفسه. غير أنّ نظرته بقيت شكليةً، تركّز على التناسق البصري أكثر من التجربة الحسية الكاملة.
وهنا جاءت الظاهراتية، ولا سيّما في فلسفة موريس ميرلو-بونتي، لتعيد النظر في المعمار بوصفه خبرةً جسديةً حيّة. فالإنسان لا يتأمّل المبنى من الخارج كما يتأمّل لوحةً فنية، بل يسكنه ويتحرك داخله. والجسد، بحركاته وذكرياته وإيقاعاته، هو الوسيط الذي يمنح الفضاء معناه. فالتواء الدرج، وصدى الخطوات في الممرّ، ودفء الضوء المتسلّل من النافذة، كلها تشكّل خيوطًا حسّيةً وعاطفيةً تنسج التجربة المعمارية في نسيج الحياة الإنسانية.
وقد تجسّد هذا الفهم في أعمال المعماري الياباني تاداو أندو، الذي صمّم كنيسة النور في أوساكا لتكون درسًا في التبسيط الميتافيزيقي: جدران خرسانية تخترقها نافذة على شكل صليب يدخل منها الضوء كأنه وحي. فالمادة الصلبة هنا ليست ضدّ الروح، بل طريقٌ إليها. وكذلك يرى بيتر زومثور أنّ جوهر العمارة هو «الجوّ»، أي ذلك الإحساس الخفيّ الذي يجعل المكان حيًّا. فالجمال المعماري لا يكمن في الزخرفة، بل في الحضور، في قدرته على تحريك الوجدان وإيقاظ الذاكرة وإعادة وصل الإنسان بالعالم من خلال حواسّه.
العمارة والأخلاق: الهندسة الأخلاقية للفضاء
وراء الشكل والوظيفة تكمن الأخلاق. فكلّ مبنى هو فعلٌ أخلاقيّ لأنه يشكّل سلوك الإنسان وعلاقاته. فتصميم المدينة قد يشجّع على التواصل أو يعمّق العزلة، والمدرسة قد تبعث الإبداع أو تكرّس الانضباط، والمستشفى قد يواسي أو ينفّر. وهكذا تصبح العمارة هندسةً أخلاقية، تُكتب أخلاقياتها بالحجر والصلب والضوء.
ويرى الفيلسوف بول ريكور أنّ العمارة شكل من أشكال الهوية السردية؛ فهي تمنح الجماعات معنىً وزمنًا مشتركين كما يمنح الأدب الشخصيات هويةً داخل القصة. فالمعالم والميادين العامة ليست مجرد فضاءاتٍ مادية، بل مستودعات للذاكرة الجماعية. ومن هنا تنشأ المسؤولية الأخلاقية للمعماري: أن يبني عدلًا كما يبني جمالًا، وأن يصون التاريخ كما يبتكر المستقبل.
لقد مثّل تيار العمارة المستدامة أو المشاركة الشعبية في التخطيط تحوّلًا أخلاقيًّا حقيقيًّا؛ إذ لم تعد العمارة مجرّد تقنيةٍ أو ذوقٍ، بل موقفًا أخلاقيًّا من العالم. فالمعماري مسؤول عن «السرد المكاني» الذي يخلقه. وإذا كان لو كوربوزييه قد احتفى ذات يوم بـ«الآلة للسكن»، فإنّ التجربة بيّنت خطورة تحويل الإنسان إلى ترسٍ في نظامٍ وظيفيّ بارد. لذلك دعا مفكرون معاصرون مثل يوهاني بالاسما إلى عمارةٍ إنسانيةٍ متعاطفة، تضع الضعف البشري والتجربة الحسيّة في مركز التصميم، لا مجرّد الصورة البصرية.
لكنّ العمارة لا تُكتب بالأخلاق وحدها، بل بالسلطة أيضًا. فقد كشف ميشيل فوكو، في كتابه المراقبة والمعاقبة، كيف يمكن للتصميم المعماري أن يصبح أداةً للضبط الاجتماعي. فـ«البانوبتيكون» الذي تخيّله جيريمي بنثام نموذجٌ هندسيٌّ للرقابة الدائمة، يرمز إلى انبناء السلطة في الفضاء. وهكذا، لا يُسأل المعمار فقط عمّا يُتيح، بل أيضًا عمّا يمنع؛ فالجدار الذي يحمي قد يعزل، والشفافية التي تحرّر قد تفضح.
التكنولوجيا والفضاء الرقمي الجديد
يطرح القرن الحادي والعشرون تحدّيًا فلسفيًّا جديدًا: أثر التكنولوجيا الرقمية على العمارة. فالتصميم الحاسوبي والنمذجة الخوارزمية والذكاء الاصطناعي تعيد تعريف البناء من جذوره، لا في طريقة إنشائه فقط بل في فكرته. صار المعماري يتعامل مع خوارزميات وبيانات ومواد ذكية، وأصبح المبنى ذاته قابلًا للتوليد الرقمي وللتفاعل الذاتي.
لكنّ هذا التحوّل يثير سؤال المعنى. فقد حذّر فالتر بنيامين، في حديثه عن «زمن الاستنساخ الميكانيكي»، من أنّ الفن حين يُستنسخ بلا نهاية يفقد «هالته» الفريدة، أي حضوره الأصيل في الزمان والمكان. وبالقياس، حين تولّد الخوارزميات مباني بلا حدود، ما الذي يبقى من فرادتها وجذورها في المكان؟ إنّ المدن الذكية والمنازل المطبوعة ثلاثيًّا والفضاءات الافتراضية تغيّر ماهيّة السكن ذاته. فهل ما زلنا نسكن الفضاءات، أم بتنا نتفاعل معها كواجهات رقمية؟
يقدّم الفيلسوف بيتر سلوتردايك، في ثلاثيته الكرات (Spheres)، قراءةً بصريةً للعمارة بوصفها صناعة فقاعاتٍ من التعايش الإنساني. لكنّ هذه الفقاعات أصبحت اليوم رقميةً: فضاءات سحابية وواقعًا معزَّزًا وشبكات مراقبة. لقد صارت العمارة تُبنى بالمعلومة لا بالحجر، وبالكود لا بالمِلاط. وهنا تتجلّى الحاجة إلى أخلاقٍ وجمالياتٍ جديدة للفضاء الافتراضي، حيث يتحوّل الجمال إلى خوارزميةٍ، والمكان إلى واجهةٍ تفاعليةٍ، والذات إلى بياناتٍ طافية.
إنّ العمارة الرقمية تُغري بحرّيتها لكنها تهدّد معناها. فبينما جسّدت أعمال زها حديد وباتريك شوماخر جمالياتٍ عضويةً متدفقة تتحدى الجاذبية والخط المستقيم، ظلّ السؤال معلقًا: هل يمكن للجمال الحسابي أن يعوّض الإحساس الإنساني بالمكان؟ وهكذا، فإنّ فلسفة العمارة اليوم مطالبةٌ بإعادة اكتشاف الوجود في زمنٍ أصبح فيه حتى الفضاء مجرّد رمزٍ في شيفرةٍ رقمية.
اللغة والسلطة وسيمياء الفضاء
العمارة أيضًا لغة. إنها نظام علاماتٍ يعبّر عن السلطة والطبقة والهوية. وقد قدّم جاك دريدا مقاربة تفكيكية جعلت من البناء نصًّا مفتوحًا للتأويل، ومن المعمار كتابةً في الفضاء. فالبناء لا يكتمل أبدًا، بل يبقى قابلًا للقراءة والانكسار والتأويل المستمر. ولهذا تحوّل التعاون بين دريدا والمعماري بيتر آيزنمان إلى تجسيدٍ ماديٍّ للتفكيك: مبانٍ تتعمّد التشظّي والتناقض، تثير الأسئلة بدل أن تجيب.
فالعمارة هنا لا تبحث عن النظام، بل عن اللعب بالمعنى، كما في مركز «ويكسنر» للفنون حيث تُترجم الفوضى إلى لغةٍ فلسفيةٍ تشكّك في العلاقة بين الشكل والغاية.
وفي الاتجاه نفسه، يرى هنري لوفيفر في كتابه إنتاج الفضاء أنّ الفضاء ليس محايدًا بل اجتماعيٌّ وسياسيٌّ بامتياز، تُنتجه قوى السوق والسلطة. فالتخطيط الحضري والتجزئة العقارية ليست مجرد إجراءات تقنية، بل تمثيلات لأيديولوجيا السيطرة. إنّ واجهات الأبراج اللامعة تخفي تفاوتًا طبقيًّا صارخًا، وهدم الأحياء الشعبية باسم «التحديث» يمثّل عنفًا رمزيًّا ضدّ الذاكرة. ومن ثمّ، فإنّ التفلسف في العمارة هو أيضًا نقدٌ سياسيٌّ للمكان.
نحو عمارةٍ بيئيةٍ وجودية
أمام أزمة المناخ وتفتّت المجتمعات، يبرز أفقٌ جديد يمكن تسميته بـ«الوجودية البيئية». وهو تصورٌ يسعى إلى التوفيق بين حميمية السكن الظاهراتي واتساع الأخلاق الكوكبية. فالعمارة هنا ليست تسلّطًا على الطبيعة، بل تعايشًا معها.
ويعبّر المعماري الأسترالي غلين موركَت عن هذا التوجّه بشعاره الشهير: «المس الأرض بخفّة». فمبانيه، المندمجة في البيئة المحلية، تستجيب للمناخ وللمواد الطبيعية وتستمدّ من المكان حكمتها. وعلى النهج ذاته، تذكّرنا الفلسفة اليابانية بمفهوم الوابي-سابي، الذي يرى الجمال في النقص والزوال، نقيضًا لهوس التقنية بالكمال والدوام.
ويمتدّ هذا التفكير في أعمال الفيلسوف تيموثي مورتون الذي تحدّث عن «الفكر الإيكولوجي»، داعيًا الإنسان إلى التخلي عن وهم الانفصال عن الطبيعة. فالعمارة المستقبلية ينبغي أن تكون متشابكة مع محيطها؛ مبانٍ تتنفّس، تستشعر، وتتعلم من البيئة، تسهم في الشفاء بدل الاستنزاف. إنّ البيت الحقّ في عصر الأنثروبوسين لن يكون صرحًا من الحجر، بل كائنًا حيًّا يتنفس معنا، يذكّرنا بأننا جزء من شبكة حياةٍ أوسع.
خاتمة: العمارة مرآة التكوين الإنساني
في نهاية المطاف، تعيدنا فلسفة العمارة إلى السؤال الأقدم في الفكر الإنساني: كيف ينبغي أن نحيا؟
إنّ البناء موقفٌ وجوديٌّ قبل أن يكون مشروعًا هندسيًّا؛ إنه ترجمةٌ ماديةٌ للفكر، وتجسيدٌ للرؤية التي يحملها الإنسان عن نفسه والعالم. فمن المعبد الذي يوحّد بين الأرض والسماء، إلى الأبراج الزجاجية التي تعكس هشاشة الحداثة، إلى الأكواد الرقمية التي تولّد مدنًا افتراضية، تظلّ العمارة مرآةً للذات البشرية في تحوّلها الدائم.
وحين تبلغ العمارة ذروتها، تعلّمنا التواضع: أن نسكن لا أن نملك، وأن يكون الجمال انسجامًا مع المكان لا سيطرةً عليه، وأن تبدأ الأخلاق من حيث يلتقي الجدار بالأفق. ففي زمن التسارع التقنيّ واتّساع المدن، تبقى مهمة فلسفة العمارة هي التذكير بأنّ كلّ جدارٍ لا يؤوي الأجساد فحسب، بل يحضن المعاني والذكريات والأحلام.
إنّ البناء فعلُ تفكير، والتفكير فعلُ بناء. ومن يفكّر معماريًّا، إنما يتخيّل عالمًا أعدل وأجمل وأصلح للسكَن.








0 التعليقات:
إرسال تعليق