الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الجمعة، أكتوبر 31، 2025

قراءة في كتاب نايل بوستمان نسلي أنفسنا حتى الموت: ترجمة عبده حقي

 


لم يكن نيل بوستمان في كتابه Amusing Ourselves to Death مجرّد ناقد لوسائل الإعلام الحديثة، بل كان أشبه بنبيّ ثقافي رأى، قبل عقود، أن الترفيه المفرط سيغدو الخطر الأكبر على الوعي الإنساني. صدر الكتاب في منتصف الثمانينيات، في زمن بدا فيه التلفزيون ذروة التقدّم، لكن بوستمان نظر إليه بوصفه بداية انحدار الخطاب العام من التفكير إلى التسليَة، ومن الحوار إلى الصورة، ومن الفكرة إلى النكتة.

يرى بوستمان أن التحوّل من ثقافة الكلمة المطبوعة إلى ثقافة الصورة المتلفزة أحدث انقلابًا معرفيًّا جذريًّا. فبينما كانت المجتمعات الحديثة تبني عقولها على النصوص والخطابات المقروءة، حيث يتطلب الفهم القراءة العميقة والاستدلال المنطقي، أصبحت وسائل الإعلام السمعية والبصرية تصنع وعيًا سطحيًا يعتمد على الإبهار والسرعة والتأثير العاطفي. وهنا يبرز محور أطروحته: لم نَعُد نموت من الجهل، بل من الإفراط في اللهو.

يستحضر بوستمان في مقدمته مقارنة رمزية بين رؤيتين شهيرتين للمستقبل: رؤية جورج أورويل في 1984 حيث يُقمع الإنسان بالقوة، ورؤية ألدوس هكسلي في Brave New World حيث يُستَعبد الإنسان بالمتعة. يرى بوستمان أننا لم نصل إلى كابوس أورويل، بل إلى حلم هكسلي الذي تحوّل إلى كابوسٍ ضاحك؛ إذ أصبح الإنسان مسلوب الإرادة لا عن طريق القهر، بل عبر إغراقه في بحر من المتع البصرية والتقنية التي تجعله ينسى التفكير في الحقيقة والعدالة والمعنى.

يحلّل بوستمان أثر هذا التحوّل في مختلف مجالات الحياة: السياسة، الدين، التعليم، والصحافة. فالسياسة أصبحت مسرحًا ترفيهيًا لا ساحة للأفكار؛ الزعيم يُنتخَب بفضل طلّته التلفزيونية لا بعمق برنامجه. أما الدين، فغدا بدوره عرضًا استعراضياً يعتمد على الإبهار العاطفي بدل الخطاب الروحي المتزن. والتعليم فقد طابعه النقدي، وصار يتنافس مع ألعاب الفيديو على انتباه التلاميذ. حتى الأخبار، التي يفترض فيها الجدية، تحوّلت إلى «تسلية معلوماتية» تُقدَّم في فقرات قصيرة محاطة بالموسيقى والابتسامات.

يقدّم بوستمان تحليلاً سوسيولوجيًا عميقًا لآلية عمل التلفزيون بوصفه "وسيطًا" لا ينقل فقط المحتوى، بل يعيد تشكيل طريقة التفكير نفسها. فهو لا يكتفي بعرض المعلومة، بل يغيّر شكلها ودلالتها لتناسب طبيعة الصورة، مما يجعل الحقيقة تنكمش إلى لحظة من الإثارة العابرة. إن التلفزيون، في نظره، لا يعرض العالم كما هو، بل كما يرغب هو أن يكون: بسيطًا، ممتعًا، خاليًا من التعقيد. وهكذا يتحوّل الوعي الجماعي إلى سطحٍ لامع يخفي تحته فراغًا متسعًا.

وما يجعل الكتاب أكثر راهنية اليوم هو أنه يبدو كُتب عن عصرنا الرقمي لا عن الثمانينيات. فلو عاش بوستمان زمن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، لوجد أن نبوءته تحققت بأقسى مما تخيّل. فاليوم أصبح «المستخدم» هو المنتج والمستهلك في الوقت ذاته، يغرق في تدفّق لانهائي من الفيديوهات القصيرة والمنشورات الساخرة. لم يعد التلفزيون وحده من يصنعنا، بل صرنا نحن نصنع أدوات تسليتنا التي تبتلعنا.

أسلوب بوستمان يجمع بين التحليل الفلسفي والدعوة الأخلاقية؛ فهو لا يعادي التكنولوجيا بذاتها، بل يرفض استسلام الإنسان لها دون وعي نقدي. إنه يدعو إلى استعادة قيمة الكلمة المكتوبة، بوصفها أداة للتفكير والتأمل والمساءلة، في وجه ثقافة الصورة التي تفضّل الضجيج على المعنى. وقد صاغ فكرته في جملة صارت شعارًا شهيرًا: «لسنا نواجه خطر أن يُمنع علينا قول الحقيقة، بل خطر ألا نهتم بسماعها.»

في نهاية الكتاب، لا يقترح بوستمان حلاً سحريًا، بل يقدّم نداءً للمثقفين والتربويين والإعلاميين: أن يُعيدوا الاعتبار للكلمة وللحوار وللعمق الإنساني في زمن يختزل الإنسان في مشاهد ومقاطع. فالمستقبل، كما يراه، لن ينهار بالصراخ، بل بالضحك… ضحكٍ بلا معنى، ضحكٍ حتى الموت.




0 التعليقات: